يقُولونَ في الشآم - رفعَ اللهُ عنهُ بهِمَمِ أهله الأحرار الغمَّ والهمَّ والدمَ - مثلاً مشاعاً:
(بِيَدِي جِبْت الديب عَ كَرْمِي)، وهو المثل الذي أتذكّره كلّما سمعتُ كاتبا/ أدبياً يردّد موّالَهُ الطموحَ: أن يكون لدينا -ها هنا- (اتّحاد كُتّاب)، وإنْ سألتهُ: (خير.. ليش إن شاء الله؟)، ضربَ أسداساً لأخماس، وراحَ يُعدّد مزايا الاتحاد البالية الخياليّة.
كُلُّ مَأْسَسَةٍ ورسمنَةٍ لمنهاجٍ ثقافيٍّ يُغلِّفُهُ، يُكَفِّنُهُ، يكْبُتُ طُمُوحَاتِهِ الوليدةِ، يأْخُذُ بِتلابيبِ مشروعِهِ، وكذَا بكُمِّ أَصْحَابِهِ وأترابهِ وأَجْنَابِه، ثُمَّ مِنْ نعيمِ التقارُبِ في البصائر والمصائر والبروزِ بجانب رمُوزِ المؤسّسةِ حتّى أُفُولٍ عَجُولٍ، حيْثُ لا يَسْبِقُ ذاكَ الأُفول إلاَّ محاولات عجاف لا تهديكَ إليها شواهدٌ، ولا يدلُّكَ عليها طلول، تتعاقبُ السنوات ولا حراك، كأَنّي أتصرّف بقولِ زفر بن الحارث:
وقَدْ يَنْبِتُ المَرْعَى عَلَى دِمَنِ الثَّرَى
وتَبْقَى (ثقَافَات الجُمُودِ) (1) كَمَا هِيَا
في غُرّة التسعينياتِ، أقفلتِ الشيوعيّة السوفيتيّة (البُعْبُع القديم) أَبْوَابَها بيدِ أمينِهَا (ميخائيل غورباتشوف) بعد انقلاب آب/ أغسطس الفاشل. لتبدأ جمهوريّات روسيا الإتحاديّة بتحوّلات جذريّة خريفيّا ما زالت أوراقها تسَّاقط، لكنّ أثر (البُعْبُع) -وإن كان طفيفاً- ما زال في المجتمعات التي لا تَرُوقُها لفظة شيوعيّة بل تُوَرّقُهَا؛ فهل مُمانعة فكرة الاتّحاد على صلةٍ -بطريقة أو بأُخرى- بآثار الرهبوت الماضي، فقد تلاشى البُعْبُع (أو اسْتُبْدِل يرحمكم اللهُ بالإسلام السياسيّ) وبقيَتْ رهبته جاثمة على صدور بعض المسؤولين. وبيتُ القصيد هُنا: أنّ الرقيبَ والمسؤولَ إذ يعترضان إنشاء اتحاد أو رابطة للكُتّاب، فإنّهما ما زالا تحت تأثيرات ومخاوف لم تعد ذات صلةٍ قويّة بالواقع، وما تحيطُهُ من مخاطرٍ تأتيه من جمود في تفسيراته وتأويلاته البالية لفكره (الأصيلِ) قبل أي مخاطر من فكرٍ (دخيل)؛ وحسبي ما قالتُهُ العربُ، وهذا أوانه: (مِنْ مَأْمَنِهِ يُؤْتَى الحَذِر)
والسؤال الذي قلّبته مراراً: (لماذا تريد طائفة من الكتّاب السعوديّين اتحاداً ؟)
لئن كان المسؤول متخوّفاً من مخاطر سرابيّة ماضويّة، ألستم -يرحمكم الله- تُطالبون بمطلبٍ عفا عنه الزمن، أحتميّة أن نمرّ بكلّ مرحلة مرّ بها الآخرون.
حسناً، ما الذي أَنْجَزَتْهُ اتّحادات أو رابطات الكتّاب والأدباء في دول الجيران للثقافة الأهليّة التعدّدية، لمجتمعاتها، لصناعة القرار السياسيّ النهضويّ، للأدباء أنفسهم المنتفعين بانضمامهم إليها. ألم تعجز أن تصبح جماعة ضغط تتمتّع بنفوذٍ أهليّ تُؤازر حُجّة قيامها، وآثرت أن تبقى ذيلاً للسلطة، ذيلاً يُنتج دوماً عقبى تزاوج المثقّف بالسلطة؛ فأينَ نجاحاتها حتّى يتبنّى بعضنا هكذا فكرة شموليّة سلطوية رعويّة، أمْ هو الظنّ أنّها جزءٌ من المجتمع المدنيّ وأيّ ظنّ هو؟ في حين أنّها فشلت أن تمنحَ وجودها حضوراً ذا قيمة، غير قيمتها الوجودية الموهومة.
لماذا نريد اتّحاد كتّاب سعوديين؟ ما النموذج الذي يشجعّك أن تناصر هكذا فكرة؟ أما ترى البؤس والوجود المستزلم في اتّحادات كُتّاب دول الجيران، أعضاؤها بالكاد يمثّلون أنظمتهم كنواطير للفضيلة والعروبة تقيّةً من شياطين الفكر إذ يتهامسون. فما لهم لا ينتصرون لقضايا كتّابهم، أو يُعارضون اعتقالاتهم، أو محاكماتهم، أو مصادرة أعمالهم وأرزاقهم. وحسبكم محاكم التفتيش (بإدارة الاتّحادات وإرادتهم أو بموافقاتهم الضمنيّة صمتاً وعجزاً). فمحكمةُ تفتيشٍ لأدونيس في اتحاد كتّاب سوريّة وطرده وشطب عضويّته، تحت علّة: أنّ بقاءهُ مفسدةٌ ومخاطرةٌ على العروبة، يتنزّه عنها عرسان(2) وبغلان وجعلان. ومحاكمُ تفتيشٍ في مصر يقفُ اتّحاد كُتّاب مصر مكتوف الأيدي كشيطان أخرس في مؤامرة عبدالصبور شاهين ورفاقه ضدّ نصر حامد أبو زيد في أروقة الجامعة، ثمّ محكمة تفتيشٍ في الأحوال الشخصيّة-لفقه الحسبة الحنفيّ لتكفيره والتفريق بينه وبين زوجه. ومحاكمُ تفتيشٍ في الأُردن للشاعر موسى حوامده على شعره، بتُهَم التكفيّر، وغيرها الكثير الكثير..
ماذا فعل الاتحاد بوجه الاغتيالات: اغتيال د. فرج فودة: صاحب (الحقيقة الغائبة)، محاولة اغتيال نجيب محفوظ، تهديدات القتل التي يتلقّاها الكاتب (سيد القمني) إن لم يتوقّف عن الكتابة.
كيف تعاملت اليوم مع انتفاضات الشعوب في الميادين العربيّة، فاتّحاد سوريّة لا يتوقّف عن إصدار البيانات إدانة بالضحايا وإباحة لدماء المستضعفين واتّهاما للشرفاء بالعمالة والخيانة. (تبّاً لهكذا اتّحاد وراعيه، تبّاً لخرافه أيضاً). وفي مصر وقعَ الاتّحاد في بدء الثورة بحيرةٍ بين تبعيّته للسلطة وميدان التحرير، حتّى بدأ الانشقاق بعد تردّد في قراءة الواقعة ومراهنة على الرئيس مبارك وجَمَاله وجِمَالهِ.
كلُّ تلك المحاكم والخذلان، فأيّ مناصرة أو أنمذجة لهكذا تجارب ومخرجات. ماذا تنتظرُ أيّها المُتَطَلِّعُ لاتّحاد كُتّاب سعوديّ، أمثقّفٌ وتسيطر على ذهنكَ سلطة مؤسّساتيّة!
لا شيء في سيرة الاتحادات يشفع لها! وهي التي وقفت عائقاً وبوقاً وأداة لقمع الفكر ومزاوجة السلطة بالمثقّف إمعاناً في تدمير أي مشروع لاستقلال المثقّف الذي هو أساس التنوير، فما من نماذج مُشرّفة أو إنجازاتٍ ناهضة قيّمة في تجاربهم حتّى تجدنا نصرّ على هكذا مطلب سلطويّ رعويٍّ؛ وحسبكم الأندية الأدبيّة: هل حرّكت ساكناً لدينا في مسألة التكفير التي عصفت بنا بعد محنة شرائط الكاسيتات والكتب التكفيريّة في الثمانينيات؟!!
* كلُّ فعلٍ ثقَافِيٍّ مُنفلِتٍ مُنشقٍّ عن راعِي القطيعِ يُعوّلُ عليه.
* القطيعُ كُلُّهُ يُغنّي أُغْنيةَ الراعِي، فكيفَ تُعَوِّلُ أَنْ يُورقَ عشتارٌ ونوّارُ.
* الشاةُ التي خَرجتْ من القطيعِ، (لا تذبحوها)؛ إنّها آنسَتْ مرعى جديداً، وآمنتْ أملاً وعيداً.
* وَحدهُ الخروجُ يؤمّنُ احتمال وجود دربٍ مُغايرةٍ.
* المكوثُ عُتْمَةٌ، الخروجُ ضوءٌ.
يتَّحِدُ بكَ كيما يُلْغِيْكَ أَو تُلْغِيْهِ أَو تُلغيانِ بعضكما بوَهْمِ اتّحادٍ طوباويٍّ أبويٍّ ليس لهُ غاية إلاّ إلغاء الفوارق والبوارق، وإعلاء لشأن الوصايةِ من بابٍ مدنيّة سرابيّة، ولَئِنْ كان الحلُولُ غاية العشّاقِ، إيهِ وأيّ غايةٍ، فإنَّها في الثقافةِ إبادةٌ. أو يتحايلون، يختلقون تسميّة منحولةً من التراث، خوفاً من البعبع، فيقولون: (رابطة)؛ مرّة أخرى، أيّ معانٍ تطمئنّ لها في الربط. يربطُكَ فما تقدرُ على فعل شيءٍ من دونه. كأنّي بما يُنسب للحسين بن منصور الحلاّج:
ألقاهُ في اليمِّ مكتوفاً وقالَ لَهُ
إيّاكَ إيّاكَ أنْ تَبْتَلَّ بالماءِ
في غُرّة صفر القادم يكون ملتقى المثقّفين (الألفي-الوزاري) فكيف يمكن لكَ عقلاً أن تستوعب أنّ عدد ألف مُثقّف/أديب سوف يجتمعون مع المسؤولين، ثمّ لا يخرجون بتوصية تتعلّق (1) بإلغاء الرقابة أو التخفيف من قيودها، (2) بفسح كافّة مؤلفات السعوديين؛ (3) إنشاء مراكز ثقافيّة أهليّة والترخيص لها؛ (4) مراكز للترجمة..
ولعلّ الملتقى -في الخاتمة- لا يخرجُ بتوصياتٍ غبراء صفراء لا تُغني من جوعٍ ولا تزن في ميزان الثقافة الحرّة شتلة قمحٍ، اللَّهُمَّ إلاّ ظنّهم الحسن -وهذا دأْبُهُم وديدَنُهُم- لكنّ الثقافة التعدّدية لا تحبلُ بالنوايا الحسَنة.
Yaser.hejazi@gmail.com
جدة