إنّ التخطئة من غير دليل واضح أضر من الخطأ نفسه؛ لأنه تعطيل لحيوية الاستعمال اللغوي الملتزم بقياسها، ولعل من أمثلة ذلك ردّ أبوتراب الظاهري رحمه الله وغفر له، قال: «ومن الأخطاء الشائعة قولهم: (الشيء الآنف الذكْر) والصواب أن يقال: الشيء الذي ذكرته آنفًا أو سالفًا، جاء في مختار الصحاح: وقال كذا آنفًا وسالفًا، وهو أسلوب القرآن الكريم، قال تعالى: «وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا» [ محمد-16] فالصواب: المذكور آنفًا والمذكور سالفًا، وهو أدل على المعنى إذا أريد مضي الشيء» (1). ولم يبين رحمه الله جهة الخطأ في استعمال المحدثين، ولم يزد على حشد النصوص التي ورد فيها الاستعمال القديم، ومن البديهي القول إن تواتر استعمال قديم لا يحجب استعمالاً حديثًا؛ إذ الاستعمال الحديث إضافة تثري اللغة وتدل على حيويتها وقدرتها على الإبداع في إطار الأقيسة الصحيحة، ولعل المتأمل يرى أن (آنفًا) هي اسم فاعل جاء حالاً في الاستعمال القديم أو هو ظرف زمان من قبيل نيابة النعت عن اسم الزمان إن تأولنا المعنى، فالذي ذكرته آنفًا معناه الذي ذكرته وقتًا آنفًا. ولم يأت اسم الفاعل إلا من فعل هو (أنِف) أي سبق أو سلف، ومن أجل ذلك يمكن أن نصف الشيء الذي أنف بقولنا الشيء الآنف، كما نقول من (سبق) سابق، فإذا تبين لنا هذا أشرنا إلى أن المنعوت قد لا يقصد ذاته بل نعت سببيِّه أي نعت أمر هو من سببه ومن لوازمه، ومن هنا يسوغ لنا أن ننعت الذكْر الذي هو من سبب الشيء، ولنا هنا طريقان في النعت: الأولى أن ننعت (الذكْر) نعتًا حقيقيًّا فنقول: ذكرُ الشيءِ الآنفُ، فالذكر هو الآنف، ولنا أن نجعل (الشيء) محل اهتمامنا ونقدمه في قولنا: الشيء الآنف الذكر، فالآنف نعت لفظي للشيء ولكنه نعت معنوي لسببيّ (الشيء) أي الذكْر، وهذا مماثل لقولنا الرجل الحسن السمعة، العظيم الخلق، وبمثل هذا جاء استعمال صاحب تاج العروس، قال: «وأَنْشَدَ البَيْتَ السابِقَ الذِّكْر في المُهْمَلَة هُنَا». ووجدت صاحب نفح الطيب استعمل (السابق الذكر) في عشرة مواضع. وأكثر ما يستعمل (آنفًا) للماضي القريب المتصل بالحاضر، وأما الاستئناف فيكون في المستقبل؛ لأنه طلب للبدء، ولعل ذلك ما جعل البغدادي يستعمل (آنفًا) لما يأتي في المستقبل أيضًا، وقد نبّهني إلى هذا الاستعمال النحوي الدكتور سالم القرزعي. قال البغدادي في خزانته: «كما يأتي آنفًا» (2)، وقال: «وضمير لها للإبل في شعر قبل هذا يأتي آنفًا» (3). فاستعمال البغدادي يجعل اللفظ من الأضداد فيصير بمعنى السابق واللاحق. والذي ننتهي إليه أن قول المحدثين (الشيء الآنف الذكْر) صحيح جار على أقيسة العربية.
* * *
(1) أبوتراب الظاهري، لجام الأقلام (ط1، تهامة للنشر/جدة، 1982م)، ص215.
(2) البغدادي، خزانة الأدب، 1: 267.
(3) البغدادي، خزانة الأدب، 9: 248.
الرياض