منذ أن وعيت شقائي والآخرون يلبسونني معاطف لا تليق بي، وأردية فضفاضة فوق احتمالي، فيلامس بعضها جسدي، وما تبقى أشعر بلطخ منه تشبهني، كل التشبيهات التي أسمعها تثير أعصابي، تحرق دمي، تشعل النار في أحشائي...
- أنت يا حلو.
أنت يا جميل..
أنت يا مثير..!
هكذا الكلمات تترى من رفاقي ومن كل الصفوف الدراسية، حيناً تُطلق خلفي في الممرات، وفي أوقات أخرى تأتي مباشرة كالصفعة على وجهي، حتى جاء يوم الفصل حينما اشتبكت يداي مع الآخرين رداً لاعتباري، وهي بداية الشقاء الذي لازمني في كل مكان، لا أعرف غايته لكن طريقه طويل جداً.
علم أبي بما حصل في المدرسة فكانت خطوته القادمة نقلي وأخي إلى مدرسة خاصة، كان القصد من ذلك الحفاظ علي وأخي ممن يعتقد أنهم لم يتلقوا تربية سليمة، وأنهم أولاد شوارع، ومن الصعاليك المرفوضين في المجتمع، كانت المدرسة الجديدة أكثر نظاماً وانضباطاً ورقابة، أحسست أن من يماثلني يمر بالظروف نفسها، فهذه المدرسة تغص بهم، وفي الحي المحيط بها بيوتاً ومساكن فارهة لهم، فشعرت بمعاناتي المشتركة.
نميل إلى البياض المشوب بالحمرة، لنا شعر ناعم طويل تميز بحسن تصفيفه وتنسيقه، سواده كالليل وبعضنا يميل إلى الشقرة، ملامحنا واضحة الانحدار إلى عدة أوطان مختلفة، وكذلك ألسنتنا لا تجيد المخارج اللفظية لوطننا، غالباً ما نحب الملابس المختلطة غربية على شرقية، ويندر أن نلبس الثياب والغترة، أما أنا فكثيراً ما أشعر أني أفضل من غيري بمسافات بعيدة، لا أطرب لغنائهم وفنهم، ولم أحاول تحسين لساني لكي أكسب الرهان بأني منهم، وأثق بجمالي كثيراً!! فأمي في كل سانحة تزيد في توصيتي، وتؤكد على ثقتي بنفسي مراراً وتكراراً..
- كن حذراً من هؤلاء الشباب، إياك والانفراد بأحدهم، هل تعلم معنى كلمة شواذ أو منحرفين؟؟، هم كذلك لا تثق بأحد، ولا يغروك بمعسول الكلام، ولن ينفعك الندم بعد ضياع شرفك!!
أبي شديد التعقيد في شخصيته، وتركيبة مزاجه صعبة جداً، قليل الابتسام أو الضحك، ويردد ندمه علنا على مسامعنا أنا وإخوتي صباحاً ومساءً..
) أكبر غلطة في حياتي هو زواجي من أمكم، أنا لا أعرف لماذا أقدمت على الارتباط من خارج بلدي!!، بصراحة المرأة التي لا تعينك على الأولاد والحياة هي مثل العدو!!
فيعلن الحرب بهذا الكلام اليومي بينه وبين أمي، فنهرب منهما، نتكوم كفراخ العصافير في إحدى الزوايا خوفاً أن ينالنا رشقة من قذائفهم، ترتعد فرائصنا، وتعصف الألوان بقسماتنا، نمسك بأيدي بعضنا كشبكة تلتف حول نفسها، فيراكم الحزن غضبه بحنكتها وتفوقها عليه، حيث إنها تتجاوزه بالعلم والمقدرة على الخلاص من غضبه، اعتادت أوقاتنا على هذا المد والجزر من بحرهما مما جمع زبداً ثائراً ناصع السواد وليس البياض!!، تلبد الغيم القاني مع هذا الزبد في قلبي وبنى جداراً من كره وحقد للحياة وللناس والأخلاق، عزلت نفسي عن الأصدقاء، ضاقت أوقاتي عن كل شيء، إلا همومي فقد اتسعت لها، أملك غرفة منعزلة عن إخوتي، ولي فيها كل ما أرغبه من أجهزة سمعية ومرئية، استطعت اقتناءها بعد جمع مصروفي اليومي، أدير الصوت منتشياً لموسيقى لا تمت لهما بصلة، فنمت لصداها خيوطاً شبكتني باللغة الإنجليزية، ووجدت عوناً من أمي فهي كذلك تجيدها عن دراية ومعرفة، وللأغنيات الغربية دروساً أخرى، بدأت أشعر بزيادة تسلط أبي علي، فكان لا يعرف الحوار أو النقاش وليس للود مكان في قلبه..
) أنت.. تعال هنا..
ألا يعجبك حالنا ووضعنا؟؟.. من أنت حتى تنقلب على قيمنا وعادتنا وتقاليدنا؟؟، ألا تعرف أنك ابن أحمد ولست ابن هيام؟؟ أنت تنتسب إلي أَم إلى أمك؟؟ أود أن تفهم هذا الفارق.. مفهوم وإلا تريدني أشرح لك طريقة الفهم كذلك!؟ هذه غلطتي حينما تزوجت أمك التي لم تعرف ما هي الملابس الملائمة وما هي الأغاني والكلمات والرجولة الصحيحة!؟، كان على من البداية تربيتها لكي تحسن تربيتكم!!
أصيبت أذناي بوشوشة لم تفرق بين الأصوات ونبرات الكلام، لم أستسلم كالعادة لهذا السيل العارم من سنين طويلة، وقد آن الأوان لبناء سد يوقف الطوفان، فرحت أهذي..
- إلى متى نحتمل هذا الكيل لأمي؟؟، كل أخطائك ومصائبك وغسيلك تقذف بها عليها؟؟، وكلما ضاقت بك السبل تهددنا بالضياع والطلاق، وطرد أمي من البيت، ويقولون أبوك وأبوك.. أيعقل أنك والدنا وهذه معاملتك لنا؟؟
لا أدري لماذا وقفت أمامه، وماذا قلت له، لكن وعيي استيقظ على صفعات وضربات فجّرت ما استوطن في الحواس النائمة واليقظة، كان يزيد في ضربي كلما قلت كلمة ضده أو تدينه، لم أشعر أني ابنه وقتئذ بل شخض آخر يحاكمه عن كل صغيرة وكبيرة، لم تكن أمي بعيدة عني فتدخلت لإنقاذي من هلاك محتمل، قطن كرهه بعدئذ كل مشاعري، أتمنى موته أو مرضه أو سقوطه كي ينهار كبرياؤه وغروره، لازمني كظللي، وارتبط بنوايا لا أبوح بها، وما أعمله أحسب له ألف حساب، فتسرب القلق إلى حياتي، وشعرت باهتزاز شخصيتي وكياني أمام مواقف كثيرة، والآخرون ينظرون إليها بتفاهة وهوان، أدركت أن الورقة الأولى بينهما هي سبب هذا كله!؟، لم تكتب بحروف منصفة، وكلمات مضيئة، ولم تصغ بميثاق يحفظ القادم من الأيام، فهي كالأوراق الأخرى أو السندات التجارية، أبي لم يتزوج من أمي.. أبي ابتاعها بمبلغ بخس ونحن ضحية صفقة خاسرة، وسندفع قيمتها لزمن طويل قد ننتهي ومازالت أقساطه باقية على قيد الحياة.
-