حينما احتفل الأمريكيون عام 2008 بلحظة حاسمة في تاريخهم.. حينما تم تنصيب أول رئيس أفرو أمريكي للولايات المتحدة, كان الأفرو أمريكيون ذاتهم أكثر فرحاً وبهجة لأن تلك اللحظة تعني أن الجهود التي بذلوها للحصول على المساواة والحقوق قد آتت أُكلها أخيراً. ولكن ذلك لا يمنع من إلقاء نظرة على التاريخ الذي عاشه هؤلاء والعقبات التي صادفتهم حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه.. لم تكن العقبات اقتصادية أو سياسية فحسب, بل كانت تمتد إلى كل شأن من شؤون حياتهم بلا استثناء, ولذلك كانت محاولاتهم في عالم الأدب والفن تُعد ترفاً لا يسمح للكثير منهم بممارسته إلا حين يكون تابعاً للسيد الأبيض في آرائه.. ومع أن العديد من الشعراء والكُتَّاب الأفرو أمريكيين كانوا يلتزمون بما يرضي الرجل الأبيض فقد كان منهم من يرفض الانصياع, بل وبادر إلى العصيان «الأدبي» على عصا السيد الأبيض التي تتمثَّل في الرقابة, فلم يخضع لمبدأ العصا والجزرة تحت أي ظرف.
كانت الرقابة ولا تزال سيفاً مسلطاً على أقلام أولئك المبدعين حتى تنتزع منهم بالقوة ما رفضوا أن يؤتوه طوعاً.. وقد كان المنع والحجب وسائل معتادة لتكميم أفواه الأدباء السود وقمعهم حتى لا يكون لهم تأثير في المشهد الثقافي الأمريكي أو في سائر مناحي الحياة.. ومع ذلك فقد نجح كثير منهم في التملص بذكاء من تسلط الرقابة وتمرير ما يريد عبر الفن القصصي أو المسرحي, وعن طريق المجازات التي تحمل أكثر من معنى.. بينما قام البعض الآخر بتحدي الرقابة وإنشاء دور نشر خاصة بهم لنشر أعمالهم التي ينادون فيها بالتحرر من سلطة الرجل الأبيض ويحاولون عن طريقها خلق هوية خاصة لأدبهم ولعرقهم بصفة خاصة.
وفي ستينيات القرن الماضي حينما حدثت أعمال شغب وفوضى بسبب الظلم والجور الذي كان الأفرو أمريكيون يتعرضون له وبسبب تضامن القوى الحركية والسياسية والأدبية لتحرير الشارع الأفرو أمريكي قامت السلطات بمحاولة القمع لتلك المظاهرات وأعمال الشغب بالقبض على الأدباء الذين لم يخضعوا لسيطرة الرجل الأبيض وعلى رأسهم أميري بركة.. وقصة القبض على بركة تبين الأبعاد الخطيرة للرقابة حينما تستخدم كسلاح لفرض الرأي الأوحد وتغليب ثقافة التبعية وتشكيل الرأي العام للشعب.
وأود أن أورد القصة كما ذكرت في عدة مواضع, وكما رواها بركة ورفاقه, وكما سجلتها سجلات المحاكمة - التي تشبه المهزلة - والتي حدثت لبركة.. وذلك لكتابته لنصوص لم ترق لذائقة ومعيار الرقيب الأدبي والسياسي على حد سواء! وقد اعتقل بركة في إحدى الليالي, حينما كان التوتر والشغب على أشده, بينما كان عائداً مع ثلاثة من أصدقائه.. وفي طريق العودة سمعوا دوي انفجار من مسافة بعيدة.. فلم يعبأوا به, وبعد ذلك تقدمت نحوهم دورية للشرطة وطلبت منهم التوقف بحجة أنهم هم من تسبب بالانفجار, وتم اعتقالهم تحت ذريعة الاشتباه في تورطهم في الإضرابات وإخلال الأمن.. وحينما حاول بركة توضيح الموقف قام الشرطي واثنان من رفاقه بضربه وتصفيد يديه بوضعية مؤلمة واقتياده لمركز الشرطة, ومن ثم تمَّ تحويله للمحاكمة.. وفي المحكمة كان القاضي وهيئة المحلفين جميعهم من البيض.. وذلك من أعجب الأمور فكيف يكون القاضي هو الخصم والحكم في الوقت عينه؟!
وبما أن السيد الأبيض كان في حاجة لإثبات سيطرته مرة أخرى، ولأنه أراد أن يصنع أمثولة ممن يحاول معارضته.. فقد لعب الرقيب السياسي هنا دوراً واضحاً.. ويتمثل ذلك في اختيار القاضي ليون كاب المعروف بعنصريته والذي كان الوسيلة الأفضل لقمع وتجريم بركة.. وقد رأى القاضي أن اختياره ما هو إلا تكليف من أمريكا لتجريم الشاعر.. وقد أثبت ذلك بكل جلاء حين وضع اللائحة التي تحوي الأدلة الجنائية جانباً.. وقرأ إحدى قصائد بركة كبرهان على جرمه وضلوعه فيما أغضب أمريكا.. وقد قرأ القاضي القصيدة بالكامل.. ولكنه توقف عند مقاطع معينة وكأنها صك إدانة لبركة, مثل هذا المقطع:
«يجب أن نصنع عالمنا الجديد... عالمنا الجديد... ولا يمكن لذلك أن يتحقق إلا بموت الرجل الأبيض».
وبعد أن أنهى القاضي قراءة هذه القصيدة دارت هذه المحادثة بينه وبين الشاعر:
القاضي: أرى أنك شخص مريض.. وحالتك تتطلب اهتماماً طبياً!
الشاعر: لست مريضاً كمرضك!
القاضي: موهبتك وجهت اتجاهاً خاطئاً! لديك المقدرة للمشاركة في القضاء على التوتر والعنف.. ولكنك تشارك فيه! ونجدك في مقدمة الركب الذي يدعو إلى تدمير...
الشاعر: ... تدمير الباطل والطغيان!
القاضي: ... تدمير النظام الديمقراطي الذي ارتضيناه لأنفسنا وتقوم عليه حياتنا..
الشاعر: ولكن من أنتم؟ السود لم يرتضوا ذلك ال...
القاضي: ولذلك وبناء على تجريمك بحيازة مسدسين بصورة غير نظامية...
الشاعر: وقصيدة!!!
القاضي: ... بناء على ذلك أحكم عليك بأن تقضي محكومية لا تقل عن سنتين وستة أشهر في سجن نيوجيرسي.
الشاعر: أفهم من هذا أن سبب جلبي للمحكمة ليس الشغب, وإنما «تعكيري لمزاج أمريكا بقصائدي»؟
القاضي: تلك القطعة الشيطانية المنحلة ليست بقصيدة! موهبتك تسير في الاتجاه الخاطئ ومصيرها الدمار!
ولكن ما الذي دعا القاضي إلى ممارسة دور الرقيب على الأعمال الأدبية؟
ما دعاه هو اقتناعه قناعة لا يخالطها شك بأن الأفرو أمريكيين عامة وأدباءهم بصفة خاصة يجب أن يُخضعوا لمزاج أمريكا.. ذلك المزاج السائد الذي فرضته الرقابة بصور واتجاهات مختلفة.. والذي أدى إلى تشكيل رد فعل عنيف لدى الأدباء الأفرو أمريكيين. ومع ذلك، وبعد النجاح العظيم الذي حققه الأفرو أمريكيون بعون أدبهم ومثقفيهم, نرى أن الشاعر العربي كان على حق حينما قال: «كل الدروب أمامنا مسدودة.. وخلاصنا في الرسم بالكلمات».
الرياض