تحدثتُ في مقالتي السابقة، الخميس الماضي، عن (إهداءات الكتب) وأبديتُ ما تراءى لي من انعكاساتها (السلبية) في أغلب الأحوال. وهذا كتاب من تلك الكتب المهداة لي، منذ زمن، غير أني لم أقرأه إلا مؤخراً..
(ساعة مرمورة) للأديبة اللبنانية نرمين الخنسا..
هي رواية صادرة عن دار الساقي ببيروت عام 2008، وأول شيء خطر ببالي وأنا أتصفحها، لحظة استلامي للنسخة - الإهداء - أن أسأل مؤلفتها عن المقصود ب (مرمورة)؟ وحين قالت لي إنه اسم لفتاة في الرواية، تراخت دهشتي قليلاً واكتفيتُ بهذه المعلومة عن البحث في سطور الرواية عن سبب تسميتها..!
وهكذا ظلت الرواية لعامين تقريباً في مكتبتي دون قراءة، حتى لفت انتباهي وجود نسخ منها في إحدى مكتبات الرياض – التجارية – ضمن ركن (وصل حديثاً!) فقلتُ: لا بد من قراءتها إذاً، بخاصة أنها في مكتبتي منذ زمن!
الرواية تتحدث عن فترة الحرب الأهلية اللبنانية، في السبعينيات والثمانينيات الميلادية، وتتضمن قصة حب من نوع في غاية الحساسية والخصوصية والتميّز، تجمع بين طائفتين دينيتين في تشعّب لطوائف عدة بانتماء لبنانيّ موحّد (بين خطوط التماس المشتعلة) وتدور معظم الأحداث في العاصمة اللبنانية بيروت وضواحيها..
هنا مقتطف من الصفحة 47 وأظنه يعطي الجوّ العام للرواية، وهو عبارة عن حوار دار بين الشخصيتين الأساسيتين في الرواية (ريم) و (سامر) عبر الهاتف:
(أنا يا عزيزتي ريم أقطن في منطقة سن الفيل
- لماذا..؟ سألته باستغراب
- لماذا؟.. لأنني من هنا، من هذه المنطقة.
- أنت مسيحي؟
- نعم.. -أجابها سامر- وتابع على الفور سائلاً: هل تعرفين المنطقة هنا؟؟
- نعم.. أعرفها تماماً، فخالتي وأبناؤها يسكنون في ذاك المحيط ولنا الكثير من الأقارب في تلك المنطقة.
- إذاً لماذا تسكنون في المنطقة الغربية؟
- لأن والدي وعائلته يعيشون فيها.
- والدك مسلم؟
- مسلم شيعي، وأمي مسيحية مارونية..
- يا سلام.. ياسلام.. وهل تقيمون الحواجز والمتاريس في بيتكم؟؛ سألها ضاحكاً).
وعلى هذا النمط من الاختزال والإيحاءات والأبعاد الدلالية تستمر الرواية، بتطوّر، في طرح الأسئلة البريئة التي أخفى طرحها المذنبون في كل ما جرى ويجري داخل مساحة جميلة من الكون اسمها (لبنان)..
و(مرمورة) في الرواية ليست البطلة (ريم) كما تصورتُ للوهلة الأولى، إنما هي فتاة - أو امرأة - أخرى تتصف بالجنون، والغرابة والغربة في زمرة الأسرار، غير أنها تحرّك بعفوية أسئلة وأخيلة مفصلية في السياق الدراميّ الذي يكتنفه الغموض والعبث والمصير المأساويّ (المدهش) للساعة التي كانت مرمورة حريصة عليها قبل أن تغمرها الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان في تموز يوليو من العام 2006 فلم تبقِ من كيانها المعفر سوى (حقيبة يد) فارغة، و (ساعة يد) تتحرك وحدها بعد سبات طويل كانت فيه محوراً للضجيج والحركة في كوميديا سوداء بصحبة مرمورة، قبل أن تتلاشى وتصبح فقداً من دون فاقد.. (عالم مجنون.. مجنون.. خلا من كل مضمون ليصبح فارغاً مثل جزدان مرمورة... عالم قد يمضي عليه زمنٌ حتى يستفيق من بلادة كبوته فينهض وينبض ثانية ليستعيد دورة الحياة من جديد كما استعادتها ساعة مرمورة)..
بهذا تنتهي الرواية، ولا تزال الساعة لغزاً يشابه لغز دماء كثيرة أهدرتها الحروب العشوائية والغامضة، غموض مرمورة نفسها..
في المحصلة، وبالعودة إلى البدء: تتوافر في هذا الكتاب، أو العمل الأدبيّ (ساعة مرمورة)، كل مقومات التقنية الروائية بامتياز، ولولا حصولي على نسخة (إهداء) من المؤلفة العزيزة، ما كنتُ تأخرتُ عن القراءة سنتين.. في حين بادرتُ الآن، وأنا في غاية الاستمتاع والتأثر بهذه الرواية العاطفية الإنسانية الواقعية الحزينة المبدعة، وكأنني اقتنيتُ النسخة للتوّ من ركن (وصل حديثاً)..!
ffnff69@hotmail.com
الرياض