كنا في مقاربتنا السابقة في المحطات مع الراحل الدكتور محمد عابد الجابري قد تناولنا أحد الأضلاع الثلاثة لهرم الحداثة التراثية (الجابري - أركون - أبوزيد)، هذا الهرم الثلاثي الذي تقصّف في بحر شهور (سنة 2010)، هو الذي شكل ظاهرة فكرية ثقافية وسمت العقود الثلاثة في تاريخنا الحديث والمعاصر: وهم حسب تاريخ وفاتهم: د. محمد عابد الجابري المغاربي المتوفى في 5-3-2010 - د. نصر حامد أبو زيد المصري المتوفى 5-7-2010)، د. محمد أركون الجزائري المتوفى 5-9-2010)، إذ رحلوا عنا في أزمنة متقاربة لا تتجاوز الشهور بينهم في إطار حدود السنة 2010، فكان غيابهم حدثا كما كان حضورهم من قبل... حيث سينكب الفكر التنويري العربي في بحر هذه الفترة القصيرة بخسارة كوكبة من خيرة المدافعين عن الوجه الحضاري للثقافة العربية: د.فؤاد زكريا - د.أحمد البغدادي - د.عبد الوهاب المسيري - ليسمى عام رحيل (عام المفكرين)...
طبعا مع الأخذ بعين الاعتبار أهمية خسارة علمين أدبيين كبيرين: الأول الذي يجمع بين عبقرية الأديب وألمعية المفكر وهو الدكتور غازي القصيبي، والثاني هو الروائي الجزائري الطاهر وطار.
لقد كنا قد أشرنا في محطة الاستذكار الأولى مع الدكتور محمد عابد الجابري إلى أن رحيل د.محمد أركون بعد حوالي أربعة أشهر من رحيل الجابري، نكون قد خسرنا معلماً بارزاً آخر من معالم الثلاثي المشكل للمثلث الهرمي للفكر التراثي الحديث، الذين أرادوا أن يدخلوا التراث الإسلامي في قارة التاريخ ، بعد أن خرج المسلمون منه منذ القرن الحادي عشر حسب أركون، الذي كان يعتقد أن الرسالة النبوية لمحمد (ص)، قد أدخلت العرب المسلمين في التاريخ بعد أن كانوا شذرات رمادية على هامشه، أو متناثرات على قارعة طريق حراكه، إذ ما لبثت الدعوة أن استنفذت قوة دفعها التاريخي مع تحققها في ذروة أنسيتها الكونية في القرن الرابع الهجري، من خلال الشغل المبكر للراحل (أركون) على (مسكويه) الذي كان موضوع أطروحته للدكتوراه، ومن ثم إعلانه لأبي حيان التوحيدي بوصفه أخاً روحياً له في تجسيده لذروة حداثة زمنه، فيما انطوت عليه تجربة التوحيدي من تكثيف لقيم وثقافات عصره التي صبت في تجربته الفلسفية العقلانية الفذة من جهة، ومن جهة أخرى في شفافية روحه الصوفي الكوني الذي كان قد صبت في حوضه كل مجاري مياه الروح الصوفي لقنوات زمانه.
لقد أشرنا إلى أنه مع رحيل الضلع الثالث د. أركون بعد رحيل الجابري ونصر حامد أبو زيد، يكون التاريخ العربي الإسلامي المعاصر، قد فقد أهم رواد إدراج التراث الإسلامي في فضاءات قارة التاريخ بعد إخراجه من بهو الذاكرة (ذاكرة الحفظ والترداد والتكرار والنقل والعنعنة)، عبر التعرف عليه (انثربولوجيا - تاريخانيا - ابستمولوجيا) من خلال ما كان يسميه الراحل د. أركون حضور الناس الفاعلين في التاريخ أي؛ إعادة بناء النص التراثي أفقيا - سوسيولوجيا ، بعد أن كان- ولا يزال - واقفا على رأسه عمودياً: حيث تاريخ البشر بوصفه تاريخاً للوحي الهابط صادعا بالأمر من أعلى إلى أسفل، وذلك من أجل إعادة إنتاج المعنى، بعد أن كان هذا النص حبيس نصيته التي تتوالد ذاتيا داخل نسق المعاودة أو التكرار، بصيغة نصوص مغلقة محكمة الإقفال على ملفوظاتها المحفوظة المنقولة والمجترة في مغارات الذاكرة ومفازات المخيال بعيداً عن هواء الحياة والتاريخ والزمن، دون أن تتفتح أو تتفتق عن أي أفق نوعي جديد.
كان من الممكن للكويت التي رفض أصوليوها استقبال الراحل الثاني د. نصر حامد أبو زيد، أن تستقبل محمد أركون دون الردود فعل التي أثارتها زيارة المفكر المصري أبو زيد... لماذا؟
هل كان أركون أكثر اعتدالاً وقبولاً من أبو زيد ،في معالجة العقل العربي المريض بالماضي!!!؟ حيث وصف المريدون أستاذهم (أركون)، بأنه كان طبيبا حكيماً، يسعى لتقديم جرعات مخففة من دوائه لعلاج مريضه لكي ينقذه، لا أن يقتله بالجرعات المفرطة كما يمكن أن توحي طريقة أبو زيد؟!!
أم أن الرجل أسطورة صنعها الإعلام، بالإضافة إلى هالة موقعه الرسمي الأكاديمي في جامعة فرنسية عريقة كالسوريون... مما كان يمكن أن يحرج الأصوليين من رفض استقباله..!!
إن الاختلاف والخلاف مع الراحلين الجابري وأبو زيد كان على الأغلب اختلافا معهما، لكنه أبدا لم يكن خلافا حولهما... أي لم يكن حول أهمية قيمة ما قدماه للفكر العربي على المستوى الحداثة المنهجية، أو حول مردودية الغلال المعرفية للمنتج الفكري والثقافي للاثنين، مما سيثار حول الدور الفكري والمعرفي للراحل الدكتور محمد أركون والتشكيك بجدارة أدائه وقيمته المضافة... وهذا ما سنواصل الحوار معه في حديث قادم.
فرنسا