منذ قرون طويلة كانت المحن تتوالى على رجال الفلسفة والفكر، وكأنّ مصيرهم منذ أقدم العصور التكفير والتعذيب والتغريب والإقصاء، كما كان مصير سقراط، وابن رشد، وابن عربي، وابن خلدون، وسبينوزا، وغيرهم من الفلاسفة والمفكرين الذين تعرضوا لأشد المحن، وكان كل ذنبهم اختلافهم مع خصومهم الذين لم يتركوا حيلة ولا وسيلة إلا مارسوها للخلاص من تلك الأفكار التي تتعارض مع أساليب تفكيرهم والتي عجزوا عن فهمها في كثير من الأحيان؛ فجمعوا حولهم أعوانهم وألّبوا عليهم الجماهير كأبسط طريقة للرد على أفكارهم حينما عجزوا عن دحضها بالحجة والبرهان، فليس من السهل مقارعة المفكرين والفلاسفة! فعداء الفكر قديم قدم التاريخ الذي حمل لنا أمثلة وشواهد عديدة، ولعلّ الأزمة التي تمر بها الساحة الثقافية الآن من تبادل الاتهامات ومحاولة إقصاء كل طرف للآخر في حالة من فوضى المقالات - إن صح هذا التعبير- وأعني هنا تلك الهجمة اللا ليبرالية التي طالعتنا بها الصحف الورقية والإلكترونية على المفكر الدكتور عبدالله الغذامي على خلفية ما ورد في محاضرته «الليبرالية الموشومة» التي ألقاها في جامعة الملك سعود.
نعم، تكلم الليبراليون-كما يصفون أنفسهم- وظهرت مقالات هنا وهناك ترد على أفكار الدكتور الغذامي ورأيه في الليبرالية السعودية، والنقد والاختلاف حق مشروع لكل إنسان، شرط أن يستند على منهجية علمية تسائل الفكر وتناقش الآراء لتفككها وتثبت خطأها أو صوابها، لكي لا يتحول الأمر إلى تعصّب أعمى أو حقد على الآخرين يفضي إلى قطيعة فكرية لن تورث إلا جدبًا فكريًا، تنحدر معه لغة الحوار إلى لغة انفعالية غير علمية لا تجيد إلا السبّ والشتم على طريقة الهجاء الجاهلية التي لم يقتنع بها القارئ العادي فكيف هي الحال بالمثقفين والمشتغلين بالفكر، وبالرغم من أنّنا سمعنا الدكتور الغذامي يعلن في محاضرته عمَّا توصل إليه من خلال متابعته للحركة الليبرالية السعودية وما يعتروها من خلل وزيف بمنهجية علمية طلب الرد عليها بمثلها وأعلن ترحيبه بالاختلاف معه حول هذه الرؤى، فتنوع الأفكار وتعددها مصدر خلق وقوة وابتكار، وهنا فإنّ الدكتور الغذامي خدم الليبرالية من حيث لا يعلم الليبراليون! حيث فتح الباب على مصراعيه للتحاور حول الليبرالية مصطلحًا وفكرًا ومنهجًا ومستقبلاً، ولقد أضاعوا عليهم -بانتفاضتهم الغاضبة- فرصة تاريخية لوصف مشروعهم وإقناع الناس بأفكارهم الإصلاحية التي ينادون بها، في زمن اتسعت فيه مساحة الحرية حتى حان الوقت للخروج من مخاوفهم التي جعلتهم زمنًا ينفون عن أنفسهم صفة الليبرالية، فشاهدنا الآن من يعلنها صريحة «نعم أنا ليبرالي» فقد مهدت محاضرة الدكتور الغذامي «الموشومة» الطريق لطرح ما كانوا يخشونه سابقًا، وقذف حجرًا في المياه الراكدة فتحركت دوائرها وخرجت عن سكونها، فأحدثت جدلاً واسعًا ونقاشًا حادًا قليلة كان موضوعيًا وكثير منه ليس إلا ردة فعل أساءت إلى القضية التي ظلت محل خلاف واختلاف زمنًا طويلاً، فكل فكر يحتاج إلى طرح الأسئلة وخلخلة الساكن حتى يخلق جوًا من العصف الذهني الذي يفضي بنا إلى معالجة القضايا بطرق علمية تبني مستقبلاً حقيقيًا لتلك الأفكار على أرض الواقع، ولكن تلك الأصوات الزائفة قضت على كثير من القضايا، إما بجهل أو بقصدية وكلاهما أشد خطرًا على مشروع الإصلاح الذي تتنازعه أطراف عديدة نخشى تفرق دمه بينهم، وليس من الحكمة أن تمرّ بعض تلك المقالات التي تناولت الدكتور الغذامي مرور الكرام، بل إنّ بعضها خرج عن أدبيات المقال، وتحوّل إلى سخرية وتهكم بأسلوب أقل ما يقال عنه إنه مجرد مراهقة كتابيّة حاولت أن تجاري محاضرة المفكر الغذامي فلم تكن إلا خربشة تلميذ يحاول النيل من أستاذه بعبارات واهية وحجج ضعيفة لا تشفع له صدوره في مقال، وهنا لابد من التطرق لبعض الاتهامات التي تدين أصحابها ولا تمس مكانة الدكتور الغذامي ومنها: «الغذامي ليس إلا بائع عناوين براقة، وأنه مصاب بتضخم الذات، بل إنّ كتبه جميعها لم يجد فيها إلا الفراغ من المحتوى، وأنّه استقال من جائزة الشيخ زايد للبحث عن بطولة في لحظة السقوط، وأنه هاجم الليبرالية لإرضاء التيار الصحوي»، بل إنّ تطاول بعض الأصوات وصل حدّ نعته ب»المخرّف» أو من يطلب منه عرض نفسه على طبيب نفسي أو من يصفه بتقمص دور «دون كيشوت» بشكل مضحك، هذا بعض ما قرأته ولكم أن تفكروا معي في أسلوب كتابة مثل هذه السقطات التي لن تسئ إلا لكاتبها، فهل ما كتبه هؤلاء يمثل فكر الليبراليين السعوديين؟ ثم هل نعدها مقالات موضوعية تتبنى الرد على محاضرة علمية ألقيت في صرح علمي عريق؟ أم أنها مجرد كلمات متشنجة يغذيها انفعال منفلت من مراعاة أخلاقيات الكتابة الصحفية؟ من هنا كانت فوضى الردود تتوالى من دون ضوابط تحترم حق القارئ في توضيح الحقائق، فتاريخ الدكتور الغذامي العلمي والثقافي يشهد له بمنطقية الرأي وقوة الحجة ونزاهة قلمه حتى مع خصومه، فقد قيل: «لسان الخلق أقوال الحق» وقد شهد له خصومه بذلك، ومن لم يعرف الغذامي لجهله بفكره أو خضوعه لتعصبه فليكن منصفًا وليراجع كتبه جيدًا ليجد فيها ما قد يجعله يغيّر رأيه، أو يجبره على الاعتذار عن أسلوب خرج من دائرة الأدب وبعُد عن قيمة الحوار، أو لعلّه يخرج لنا بمقال علمي يكشف لنا فراغ كتب الغذامي من الفكر الذي اعترف بأنه لم يفهم منه شيئًا! وهنا يبطل العجب فعندما لا أفهم ما يكتب من فكر أو فلسفة فعليّ الاجتهاد في فهمه وتحليله بدلاً من رمي المؤلف بتهمة لا تتناسب مع وصل إليه من مكانة علمية محلية وعربية، أما القول: إنه قال ما قاله في محاضرته ليرضي تيارًا معينًا فهو قول يبطله خصومه قبل مؤيديه، فلو كان يسترضي تيارًا معينًا لفعل ذلك في زمن المتعصبين ضده حتى بلغ إيذاؤهم له مبلغًا عظيمًا، ومع ذلك لم يتراجع عن أفكاره الفلسفية والحداثية، وكان بإمكانه أن يعيش حياة هادئة سعيدة لو أراد، فيتخلى عن مقولاته وتبنيه للنظريات الحديثة، وكان الطريق مفتوحًا أمامه ليتولى المناصب المرموقة أو أن يستجيب لإغراءات التيار المضاد عندما كان ذلك التيار في أوج عزّه يدير لصالحه أمورًا كثيرة، بل شهد له كثير بأنّ المناصب كانت تعرض عليه واحدًا تلو الآخر فيعتذر عنها ويفضّل الاستمرار في البحث العلمي بين طلبته، ليكمل مشروعه الفكري الذي بدأه، فهل من ينطبق عليه وصف «تضخم الذات» سيرفض مناصب عليا؟ فعجبًا كيف تحكمون! وسواء اتفقنا مع أفكاره أو اختلفنا حولها فإنّ الأمانة العلميّة تحتّم علينا الاعتراف بسبقه في مجاله لكثير ممن جاؤوا بعد أن مهد لهم الطريق، فتبنوا تلك النظريات وواصلوا البحث فيها حتى خلصوا إلى نتائج علمية تتفق مع السابق أو تنقضه نقضًا بيّنًا بالحجة والدليل العلمي الذي يفضي بنا إلى القبول بالنتائج، أمّا أن يخرج علينا ذلك الكاتب الذي تفوح رائحة الاستعلاء من قلمه في كثير من مقالاته فهي والله آفة لا تليق بكاتب أو مثقف يسيء لأحد رموز الفكر في العالم العربي وليس السعودي فقط، وللأسف فقد تناقلت مواقع عديدة تلك الهجائيات التي كُتبت -ولا أقول مقالات- فأساءوا لأقلامهم وللمشهد الثقافي السعودي الذي أقل ما سيقال عنه إنه لا يكرّم رموزه، ولا يحترم اختلاف الرأي؛ لهذا جاء هذا المقال حتى لا يأتي يوم يحاسبنا فيه الآخرون على صمتنا عن الإساءة إلى مفكر أضحت كتبه الفكرية والنقدية مرجعًا مهمًا لطلبة الأدب العربي من المحيط إلى المحيط، فهل ما زال يعتقد أنّها مجرد عناوين برّاقة! ولا يحسبنّ أحد أني بذلك أنزّه الدكتور الغذامي من كل خطأ، فكل منّا يؤخذ منه ويرد، فهو مفكر له مكانته وفضله وله أيضًا أخطاؤه، ولكن هذا لا يجعل من حق الأكثرية اتهامه بالفراغ أو غيرها من تلك الأوصاف التي أدرجتُ بعضها مما خرج عن دائرة أدب المقال، فقد لا يتفق بعضنا مع أفكاره ولكن هذا لا يعني أن نتعامل مع القضية التي طرحها بهذا الأسلوب من التسطيح والتطاول عليه حدّ الجحود لعلمه وتجريده من فكره، ولكنه قدر المفكرين والفلاسفة عبر التاريخ منذ عصر سقراط حينما صرخ: «أيها الإنسان اعرف نفسك بنفسك» فليت كثيرًا من كتّابنا يعرفون أنفسهم حقّ المعرفة فلا يخوضون في مسائل تكشف زيف ثقافتهم وهشاشة فكرهم وضعف حجتهم، فلا نقارع الكبار إلا إذا كنّا نمسك بنفس السلاح، فالسلاح بضاربه!!
جدة