أكثر ما يستقبل أستاذنا حسن شاذلي فرهود زواره من طلابه ومريديه في مكتبته التي تشغل الدور الأول الأرضي من عمارته الصغيرة، كان يمضي في تلك المكتبة سحابة نهاره يقرأ فيها ما شاء الله له أن يقرأ ويحقق ما يوفقه الله إلى تحقيقه، لا يمل التنقل بين كنوزها التي أنفق عمره في جمعها وتخيرها وتجليدها والعناية بتنظيمها وترتيبها، كان يعيش بين تلك الكتب كأنه في حديقة غناء ذات أزهار وأطيار، لم أرَ عاشقًا لمكتبته كأستاذنا رحمه الله، قال لي بُعيد وفاة زوجته -رحمها الله-: إن ابنته تُلِحُّ عليه أن ينتقلا إلى جدة لتعمل هناك ولكي يكونا إلى جوار عمها، ولكنه قال: لا أستطيع أن أترك مكتبتي، لا أطيق تركها يومًا واحدًا. وأما في زياراتنا له فإن محور الحديث يدور حول تحقيق الكتب وأخطاء الكتاب والمؤلفين، وكان أهم حديث يتكرر قصة افتتاحه قسم المخطوطات في جامعة الملك سعود، وقصة الاهتمام البالغ بالمكتبة المركزية وتزييدها بالكتب، فكان له فضل كبير في رفدها بجملة من الكتب النادرة؛ إذ ما يسمع عن انتقال عالم من العلماء إلى جوار ربه إلا بادر بالتوجه إلى ذويه لشراء مكتبته وضمها إلى كنوز مكتبة الجامعة، حدثنا عن سفراته المتعددة إلى مصر وتفاوضه مع ورثة العلماء لشراء مكتباتهم، ولم يكن ينسى فضل الدكتور عبدالله بن ناصر الوهيبي وكان أمين الجامعة في أمر مساندته ومده بالاعتمادات المالية اللازمة لتحقيق الغرض، وهكذا تكونت مكتبة الجامعة نوعيًّا فصارت قبلة الناس من الدارسين من داخل المملكة وخارجها.
هذا الأستاذ العظيم -رحمه الله- بذل نفسه لجامعة الملك سعود علمًا وعملا، ولكن قيل لي إنه بعد أن تقاعد احتاج شهادة تعريف لأمر من أمور الروتين العقيم فجاء يطلبها من الجامعة فلم ينلها بحجة واهية هي أنه لم يعد على رأس العمل، هكذا النكران، ومضى محبطًا آسفًا. وحين تقدم بعض طلابه إلى قسم اللغة العربية باقتراح أن يكتب كتاباً يضم بحوثًا تهدى إليه اعترض بعضهم ذلك الاقتراح وكان أن اضطر أولئك إلى أن يكتبوا الكتاب بنية أن يطبعوه خارج الجامعة على نفقتهم الخاصة؛ ولكن قيض الله له عميد كلية الآداب الشهم الأستاذ الدكتور سليمان العقيل فسعى إلى أن تنشره مطابع الجامعة، وهكذا ظهر كتاب (الشاذليات) الذي أبهج ظهوره أستاذنا رحمه الله، وخير تكريم ما يشهده المرء في حياته. وبعد وفاة أستاذنا لم أنسَ أن أوصي ابننا الدكتور ناصر الحجيلان عميد المكتبات -حفظه الله- ووفقه أن يسعى إلى اقتناء مكتبة الشاذلي لما كنت أعلمه من أهمية المكتبة ونفاستها، فقال لي: هذا أول ما سأفعله. ومضت أشهر لا أعلم ما حدث من أمر تلك المكتبة، ولما سألت الدكتور ناصر عن أمر المكتبة وكنت خشيت أن يسبق إليها قال لي: لقد تبين أن الأستاذ قد كتب في وصيته أن تضم إلى مكتبة جامعة الملك سعود، هكذا زود الشاذلي مكتبة الجامعة في حياته وبعد مماته.
علوٌّ في الحياةِ وفي المماتِ
لَحَقٌّ أنتَ إحدى المعجزات
الرياض