(مراجعات نقديّة في خطابنا الشِّعريّ الحديث-3)
-1-
أشرتُ في المساق السابق إلى أن قصيدة النثر، من حيث هي كتابة نثريّة، لا إشكال في أدبيّتها. بل أكثر من ذلك، هي ليست بجديدةٍ في الأدب العربي(1). ولقد كتبتُ عن نماذج متميّزة منها، ووجدتُ في بعضها تجاوزًا لقصيدة النثر إلى ما أسميته (قصيدة النثريلة)، المزاوِجة بين النثر والتفعيلة. كما لستُ ممّن يرَى قصيدة النثر- بصفتها نثرًا- واردَ الغربِ بإطلاق. كما ذكَّرتُ هنالك بما قلتُ مرارًا وكتبتُ تكرارًا في أكثر من مقام: أن خلافي مع بعض كتبة قصيدة النثر هو خلافٌ اصطلاحيٌّ، حول عَدِّ قصيدة النثر شِعرًا عربيًّا.
تبقى الإشكاليّة الحقيقيّة، الثقافيّة الأدبيّة، مع أحبّتنا من الطرفين، في أن كلّ فريقٍ لا يريد أن يفهم إلّا ما في رأسه! وأن كلّ فريقٍ يأخذ المسألةَ مسألةَ نِضالٍ وفِصالٍ، واصطفافٍ مع هؤلاء أو أولئك. لذلك ستجد معظم الفريقين غيرَ راضٍ عن مثل هذا الطرح، ولكلٍّ أسبابه الخاصّة. لأن المندفعين للدفاع عن قصيدة النثر يَعُدُّون ما أقول ضِدَّهم، فإمّا أن أشهد أن قصيدة النثر شِعرٌ، ولا شيء غير الشِّعر، كأن تكون نثرًا جميلًا، لا سمح الله! أو أَسْكُتَ، كما يسكت آخرون! هذا إنْ لم يهدني الله لأتطوّع ضمن الفرقة الشعبيّة للتطبيل مع المطبّلين؛ وذلك كي ينالني شرف الانضواء تحت مظلّة الحداثة النثريّة الوارفة! قائلين: ما لكَ ولنا؟ ثم لِمَ ترتدّ اليومَ عمّا قلتَ في أماكن أخرى؟ ألم تكتب عمّا أسميته قصيدة النثر والنثريلة؟ ما هذا التناقض؟! حَدِّد موقفك: أأنت معنا أم ضدّنا؟! وفي المقابل فإن خصوم قصيدة النثر، والحداثة- جملةً وتفصيلًا- لا يرضون كذلك منّي إلّا الإدانة الكاسحة لخصومهم! فهم يصفِّقون لما يظنّونه نَيلًا من جنسٍ أدبيٍّ، أو كُتّابٍ معيَّنين. بيد أن عَلَيَّ الاستقامة في صفّهم، والثبات على ملّتهم، وأن لا أرتدد عن تيّارهم المختار. فإنْ قرؤوا لي في سياقٍ آخر ما يَفرح به أتباعُ الفريق السابق، اتّهموني بالزيغ، والمروق، أو بالتناقض.
أفهذه ثقافة معرفيّة، أم هي ثقافة حزبيّة متعصّبة، واحديّة الرأي والهوى؟! إنها أخلاقيّات «المثقَّف»، بمعناه المعجميّ القديم، أي: الرُّمح الذي (ثَقَّفَه الحدَّاد)!
-2-
* اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ *كلّها؛ وإِنَّهُ* هُوَ الْغَفُورُ *والرَّحِيمُ*»؟! هذا ما لا يُقال؛ لأن المَوْسَقَة في كلام العرب أمرٌ مألوفٌ، وهي مكوّنٌ بلاغيّ في النثر، لا في الشِّعر وَحْدَه. ولنأخذ مثالًا على ذلك أيضًا من وثيقة مكتوبة عن النبي ?، إذ كتب إلى وائل بن حُجْر الحضرميّ:
«مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إِلَى الأَقْيَالِ الْعَبَاهِلَةِ، مِنْ أَهْلِ حَضْرَمَوْتَ، بِإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ: على التَّبِعَةِ الشَّاة، والتِّيمَةُ لِصَاحِبِهَا. وَفِي السُّيوب الْخُمس، لا خِلاَطَ، وَلاَ وِرَاطَ، وَلاَ شِنَاقَ، وَلاَ شِغَارَ. وَمَن أَجْبَى فَقَدْ أَرْبَى، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَام.»(11)
أفلا ترى إلى هذا الأسلوب المتماوج بالوحدات النغميّة والتجنيس والسجع، الذي يُشبه أن يكون نظمًا تفعيليًّا؟! هكذا كان كلام العرب عمومًا، وما عَدُّوه شِعرًا قط؛ لأن للشِّعر في ذائقتهم خصائص أسمى!
إن النظم عند العرب يقع في النثر وفي الشِّعر، وأحد عوامله: النظمُ الصوتيّ، في ثقافةٍ الشفويّةُ ظلّت تغلب فيها الكتابيّة. فهل أمثال هذا حُجّة للقول بأصالة الشِّعر الحرّ في التراث العربيّ؟ إنما هو التمحّل والبحث عن ماءٍ في سراب، لغرس جذورٍ (منبتّةٍ) من شِعرنا الحديث فيه.
* * * *
(1) حول موقع قصيدة النثر من النثر العربي، انظر كتابي: حداثة النص الشِّعري، (الرياض: النادي الأدي، 2005)، 125- 126.
(2) (1305ه)، الغيث المسجم في شرح لامية العجم، (القاهرة: المطبعة الأزهرية المصريّة)، 1: 30. وقد راجعتُ النصّ على (مخطوطة الكتبخانة الأزهرية، ذات الرقم ع45267/ خ3993، ج1: الورقة20)، فوجدتُ أن ليس فيها وصف (أرسطو) ب»شاعرهم». ومن الاختلافات فيها عن المطبوع كذلك ما يأتي: «وليس الشِّعر عندهم ما يكون ذا وزن... صاعد الأنصاري... واليوناني عَروضٌ... أن يكون الخليل بن أحمد وصل إلى شيءٌ من ذلك أعانه على إيراد العَروض إلى الوجود». كما أن عنوان الكتاب في المخطوطة: «غيث الأدب الذي انسجم في شرح لاميّة العجم». فيما يتطابق المطبوع تقريبًا مع مخطوطة أخرى تركيّة، تعود إلى وقفٍ لخليل حميد باشا (برقم: 0652/1)، والنص المذكور فيها يقع على (الصفحتين 53- 54)، إلّا أن فيها كلمة «تفاصيل» مكان «تفاعيل». وقد أُعيد نشر الكتاب، غير محقّق، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1975).
(3) انظر: 8- 9. (4) آل عمران: 92. (5) الإنسان: 14.
(6) وقد ضمّن أبو نواس الآية في بيتين، يرويهما (ابن المعتزّ، (د.ت)، طبقات الشعراء، تح. عبدالستّار أحمد فرّاج (مصر: دار المعارف)، 207). إذ يُحكَى أنه اجتمع جماعة من الشعراء في مجلس، فقال بعضهم: أيّكم يأتي ببيت شِعرٍ فيه آية من القرآن؟ فأخذوا يفكّرون، فبادر أبو نواس، قائلًا:
وفتيةٍ في مجلسٍ وُجُوْهُهـُمْ
رَيحانُهُمْ قد أمِنوا الثقيلا
دانيةً عليهمُ ظِلَالُهَا
وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْليلا
(7) الماعون: 1- 2. وضمّنهما أبو نواس كذلك في نصٍّ له. (انظر: م.ن، 206).
(8) التوبة : 14.
(9) انظر: ابن المعتزّ، م.ن، 207. (10) الزمر: 53.
(11) العسكري، أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل ( بعد 395ه =1005م)، (1971)، الصناعتين.. الكتابة والشعر، تح. علي محمد البجاوي، ومحمّد أبي الفضل إبراهيم (القاهرة: عيسى البابي الحلبي)، 161.
p.alfaify@gmail.com
http://khayma.com/faify
الرياض