Culture Magazine Thursday  08/12/2011 G Issue 355
فضاءات
الخميس 13 ,محرم 1433   العدد  355
 
من حرّض الشعوب العربية على الثورة؟ (مقاربة بلاغية)
د. إبراهيم بن منصور التركي

عرّف أرسطو البلاغة بأنها القدرة على رصد وسائل الإقناع الممكنة في المواقف والقضايا المختلفة، وعرّفها البلاغيون العرب بأنها مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته. ورغم الفروق الدقيقة بين هذين التعريفين إلا أنهما يؤكّدان على اتصالية الفعل البلاغي، حيث تضمّنا أطراف العملية الاتصالية الثلاثة: المرسل والرسالة والمستقبل، فالمرسل يستخدم البلاغة ليعرف بها الوسائل الممكنة لتضمين الرسالة قوة التأثير وتحقيق التواصل الناجح مع المستقبِل، ومن هنا لا يمكن بحالٍ فصل البلاغة عن وظيفتها الاتصالية التي تعدّ أحد أهم الأهداف التي تتغيّاها البلاغة. ولهذا تركّز تعريفات البلاغة المعاصرة على هذا الارتباط، حيث يقدّم أحد التعريفات الجديدة البلاغة على أنها (الاستخدام الإنساني للرموز بقصد التواصل). وهذا التعريف يؤكد على أن نجاح الفعل البلاغي يتحقق عند إنجاز هدفه الاتصالي، كما أنه يوسّع من مجال الدرس البلاغي فلا يحصره في النشاط اللغوي، بل يجعله شاملاً مختلف رموز التواصل الإنساني لغوية كانت أو غير، بحيث يدخل في ذلك القصة والقصيدة والأغنية والخطبة واللوحة والصورة والتمثال والفيلم والإعلان والبرنامج التلفزيوني والتحفة الفنية...الخ.

هذا التعاضد بين البلاغة والاتصال تجلّى بصورة مبهرة في الدراسات الغربية المعاصرة، حيث تجد هناك كماً مذهلاً من الرؤى والدراسات والنظريات. في حين أنه لا زال فقيراً جداً لدرجة العدم في دراساتنا العربية. وفي هذه السطور سأحاول أن أقدّم قراءة لأحد أسباب الثورات العربية الأخيرة من خلال رؤية بلاغية.

ينصّ تعريف أرسطو السابق للبلاغة على أنها تهدف إلى الإقناع persuasion، وهذه الرؤية كانت محرّكاً رئيساً لكثير من الدراسات البلاغية المعاصرة بما في ذلك دراسات البلاغة والاتصال. حيث تهتمّ هذه الدراسات بمعرفة كيفية نجاح الرمز في الإقناع بفكرته، أو فهم أسباب إخفاقه في تحقيق ذلك. وإذا تأمّلنا الثورات العربية سنجدها انطلقت بعد عقود من الضخّ الإعلامي البلاغي الموجّه إلى عقول تلك الشعوب، وذلك عبر أجهزة تلك الدولة الإعلامية التي سعت جاهدة لإقناع الناس بشخص الرئيس وقدراته الخارقة على إدارة شؤون البلاد، فماذا كانت النتيجة بعد هذه السنوات الطوال؟. لقد انقلب السحر على الساحر، وصار أول عملٍ يقوم به الثوار هو تحطيم الرموز التي تشير إلى الحاكم، فتُحرق صوره في الشوارع، وتكسّر تماثيله المنصوبة في الأماكن العامة، ويهتف الناس ضدّه مطالبين بإسقاطه. وهو ما يكشف عن فشلٍ ذريع للبلاغة الرسمية التي ظلّت طوال ربع قرن أو أكثر تلمّع صورة الحاكم بكل ما استطاعت من وسائل ورموز، عبر المقالات أو الإعلانات أو الأغاني الوطنية أو البرامج التلفزيونية والإذاعية أو الصور والتماثيل المنصوبة في كل مكان. لقد كانت الأجهزة الرسمية تبتغي من وراء تلك الرموز تعزيز مكانة هذا الحاكم في نفوس الجماهير، وتروم (الإقناع) بكفاءته المبهرة في إدارة شؤون البلاد. فلماذا فشلت هذه الرموز في تحقيق هدفها الاتصالي؟ لماذا فشلت البلاغة الرسمية في تحقيق مقاصدها ولم تستطع إنجاز فعلها البلاغي؟.

يقرر العالم البلاغي الشهير أ.ريتشاردز (صاحب كتابي: فلسفة البلاغة ومعنى المعنى) بأن الاتصال الناجح يتحقّق من خلال قدرة المرسِل على بعث المعاني ذاتها التي يريدها إلى ذهن المستقبِل. وقد يُظَنّ بأن ذلك أمرٌ سهل ويسير، لكنه ليس كذلك في نظر ريتشاردز. ذلك أن المعنى لا تصنعه الرموز الدلالية التي يبثّها المرسل، وإنما يتشكّل المعنى من خلال دلالات هذه الرموز في ذهن المستقبِل. ويمكن إيضاح ذلك بالمثال التالي: الرمز (كلب) على سبيل المثال يختلف معناه من شخصٍ يستعمله للحراسة عن شخص عضّه كلب مثلاً، حيث سيبعث هذا الرمز (كلب) عند الرجل الأول معاني الأمن والأمان، في حين أنه سيبعث عند الثاني معاني الخوف والرعب. وهذا يعني أن معاني الدوالّ والرموز تصنعها التجارب والمواقف الإنسانية المختلفة التي نمرّ بها، وأن المعنى ليس موجوداً في الرمز ذاته، وإنما يتشكّل المعنى في ذهن المستقبِل من خلال ما يحمله من خبرات عن هذا الرمز، وبحكم أن كل فردٍ عاش تجارب خاصة به لا تشبه أحداً غيره، فإن ذلك يعني اختلاف معاني الرموز والدوال من إنسان لآخر. ولهذا يبدو تحقّق الاتصال الناجح صعباً نظراً لأنه المرسِل ليس قادراً -دائماً-على إيصال ذات المعاني التي يريدها إلى المستقبِل لاختلاف تجارب الطرفين. ولهذا تذهب نظرية ريتشاردز إلى أن دور المرسل في الاتصال الإنساني الناجح ينصبّ على إزالة سوء الفهم المحتمل من قبل المستقبل، وتحديد المعنى المراد بشكل دقيق من خلال عدد من الوسائل والأساليب التي يقترحها، ولا يتسع المقام لذكر هذه الوسائل والأساليب، فليس هذا هو هدف هذه السطور.

لكن ما أود التأكيد عليه هنا هو أن تلك الرموز التي تبثها الأجهزة الرسمية العربية عن الحاكم كانت تحمل معنى مختلفاً في نفوس الشعوب العربية. فمن خلال السنوات الطويلة والتجارب العصيبة التي عاشها الناس تحت قيادة هذا الحاكم تشكّلت معان جديدة في نفوس الجماهير لتلك الرموز، وأصبح اسم الحاكم وصفاته وصوره وحركاته وسكناته مثيراتٍ لمعاني القمع والذل والإهانة والفقر والجوع... إلخ، وهي معانٍ ظلّت تتعزّز في عقول الشعوب العربية يوماً إثر يوم. وفي كل مرة تضفي أجهزة الدولة الرسمية أشكال التلميع والتبجيل والثناء على شخص الحاكم وفِعاله، كانت مشاعر الامتعاض والاستياء والألم تتجذّر في النفوس، وكانت معاني القمع والذل والإهانة والفقر والجوع تحضر إلى واجهة عقل المواطن، وهذه المعاني الجديدة بكل أسف هي التي ظلّت تنخر وجدانات الشعوب إزاء تلك الرموز.

لقد كان ثمة قطيعة بين أشكال التعبير الرسمية وبين المعنى المنجَز في وعي الجمهور، حيث أحدثت هذه الرموز ما يسمّيه ريتشاردز بالتغذية المتقدمة (أو الذاتية) feedforward، وهي تقابل عنده التغذية الراجعة feedback. فإذا كان تأثر المستقبِل بالرسالة من خلال مصدرها ومرسلها فالتغذية هنا -حسب ريتشاردز- هي تغذية راجعة، أما حينما يصبح تأثر المستقبل بالرسالة ذاتياً، بحيث تصبح تجاربه وخبراته هي مصدر هذا التأثر فالتغذية هنا متقدّمة.

وهذه التغذية الذاتية هي التي كانت تحدث مع أشكال التعبير الرسمية التي كانت تلمّع صورة الحاكم وأفعاله، حيث كانت هذه الرسالة تذكّر الشعوب بتجارب القمع والفقر والقهر والذل التي عاشوها تحت قيادة هذا الحاكم. لقد صار الفعل البلاغي الرسمي الذي ينهمر على عقول الناس مثل ملح يسكب فوق جرح مفتوح، يبعث الألم في كل مرة، ويزيد الامتعاض والاحتقان والاستياء آنا بعد آن، وحيناً إثر حين، حتى وصل الأمر لحظةً ما إلى عدم القدرة على احتمال الألم، فانفجر المعنى الكامن في النفوس ليصنع الثورة الشعبية.

وإذا أردنا التعبير عن ذات الفكرة بمعيار البلاغة العربية سنجد الثورة تُعزَى إلى عدم مطابقة الكلام لمقتضى الحال، فالكلام حسب رأي البلاغة العربية عندما يُلقى إلى حالٍ لا تناسبه يعطي أثراً عكسياً. ومعلّمو البلاغة لا زالوا يتناولون شواهد لطرد الخليفة للشاعر البليغ عندما لا تطابق أقواله حال الخليفة، حيث يطرده الحاكم ويأمره بالخروج. إن الحاكم المسؤول هنا يثور في وجه شاعر الشعب عندما لا يطابق ما تقتضيه حال الحاكم. وهو ما يحدث تقريباً في الثورات العربية ولكن بالمقلوب، فمشاعر الشعب تثور في وجه الحاكم عندما لا يطابق خطابه الرسمي ما تقتضيه حالهم البائسة. إنها حالة من الإخفاق الذريع في إنجاز الكلام لأهدافه.

هذا يعني أن التحريض على الثورة لم يكن خارجياً كما ظلّت تدّعي كل تلك الأجهزة الرسمية المخلوعة، بل هي البلاغة الخائبة التي صنعتها الأجهزة الرسمية لتزرع بها الولاء فحصدت منها الثورة. إن هذه البلاغة الرسمية لم تكن فاشلة فقط في تحقيق هدفها الإقناعي، بل كانت حافزاً على إحداث النقيض ودافعاً للتحريض على إخراس أصوات منتجيها إلى الأبد.

لقد تغيّر الزمن، ولم يعد الوعي الإنساني هو في ظل الانفجار والانفتاح المعرفي الهائل، وتلك الأساليب العتيقة التي كانت تقنع الناس قبل عشرين أو ثلاثين سنة لا تبدو قادرة على فعل ذلك في ظل التغيرات المتسارعة التي يمر بها إنسان اليوم.

جامعة القصيم بريدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة