أما النقد للشعر العربي ووظيفته، فقد عرض له قديماً الفارابي (874-950م) وابن سينا (980-1037م) وابن رشد (1126-1198م) فالفارابي يزري بشيوع طابع الحس في الشعر العربي، لأن «أكثر أشعار العرب إنما هي في النهم والكدية». ويشاطره الرأي نفسه ابن رشد الذي حمل على أغراض الشعر العربي كلها، لأنها تضعف الأخلاق، وحتى ما يبدو أخلاقياً منها كما في الفخر بالشجاعة والكرم، رأى أن العرب لا تصدر فيه عن ولع بالأخلاق، وإنما عن ولع بالفخر. ونرى لديه ما رأيناه، بعده بقرون، عند الوردي من التشنيع على الشعر لاقتصاره على الغاية الفنية والتجرد من الغاية الأخلاقية، فمحاكاة الفضائل لا تطلب في الشعر العربي، ويقارِن ابن رشد في هذا الصدد مع اليونانيين الذين «لم يكونوا يقولون أكثر ذلك شعراً إلا وهو موجه نحو الفضيلة، أو الكف عن الرذيلة، أو ما يفيد أدباً من الآداب، أو معرفة من المعارف». ولم يكن ابن سينا بعيداً عن ذلك، فهو الآخر يذم الشعر العربي لذاتيته مقارناً باليونانيين «فالشعر اليوناني -يقول- إنما كان يقصد فيه في أكثر الأمر محاكاة الأفعال والأحوال لا غير، وأما الذوات فلم يكونوا يشتغلون بمحاكاتها أصلاً كاشتغال العرب».
ومن غير شك يتلاقى الوردي مع جوانب من نقد الفارابي وابن سينا وابن رشد الموجَّه إلى الشعر العربي، سواء في طلب الفضيلة والتأكيد على الأخلاق والتشنيع على ما في الشعر العربي من مدح للظالمين ووصف الخمرة والتغزل بالغلمان، وهي أمور ثلاثة رأى الوردي أنها «قلما نجدها مجتمعة في أشعار الأمم الأخرى»، أم في البعد عن الذاتية والحسية وما عبر عنه بالحماس، أم في اللفظية والشكلانية التي تطابق الضرب الذي وصفه ابن سينا في الشعر بأنه «يقصد به التعجيب وحده» وخص به العرب خلافاً لما عند اليونانيين، فقد كان اليونانيون -كما يميزهم- «يقصدون أن يحثوا بالقول على فعل أو يردعوا بالقول عن فعل». لكن الوردي يختلف عنهم بالوصل بين صفات الشعر العربي والشخصية العربية، هكذا بإطلاقها المجرد الذي يرتفع عن التعيين في شخص أو إفراده لتصبح دلالة نمطية على الجنس العربي. وإذا كان الحديث عن جنس نقي - بالمعنى العرقي - أمراً متعذراً - بحسب ابن خلدون - ومن المؤكَّد أن الوردي لا يخالفه، فإن لنا أن نفهم دلالة الشخصية العربية عند الوردي بمعنى الثقافة وهي مجلى الشخصية ومادة قراءتها وتحليلها على المستويين الاجتماعي والفردي. فكأن الثقافة العربية والشعر يتبادلان عند الوردي الإحالة على بعضهما، فتغدو صفات أحدهما صفات الآخر بلا فرق، ويغدو السلوك الاجتماعي للشخصية المنتمية إلى الثقافة العربية سلوكاً يحمل الصفات نفسها التي نقدها الوردي في الشعر.
والسؤال هنا نظري ثقافي: هل الشعر ينشئ الثقافة، أم العكس؟ وهل الثقافة تنشئ الواقع الاجتماعي أم العكس؟ من المؤكد أن لتوجهات الفلسفتين المثالية والواقعية المختلفة إجابات يمكن إحالتها على موقفين متقابلين تقابل الواقعية والمثالية، وذلك في رد الوجود إلى الفكر، أو رد الفكر إلى الوجود. وفي نظريتي التعبير والخلق - مثلاً - حيث المقولات الرومانسية ومقولات النقد الجديد ثم في البنيوية الشكلية وما بعدها، نقف على النظرية من وجهة مثالية تبلغ بالإنسان درجة البطولة، والدلالة على الفعل الفردي وعلى الرغبة في التغير، وفي نظرية الانعكاس ومقولات الواقعية والبنيوية التوليدية، حيث النظرية من وجهة واقعية، يغدو الإنتاج الثقافي تالياً لبنية الواقع الاجتماعي، أو فوقها بتعبير المادية الجدلية، فهو يعكسها ويرسم رؤيتها للعالم. وفي هاتين الوجهتين معاً وجهات ثورية تقول بفعلية الإنتاج الإبداعي في صياغة الواقع وتغيير الثقافة وتطويرها وأخرى لا ترى فيه سوى تمثيل رمزي يكشف عن الواقع ويتيح قراءته، وهو مفعول أكثر منه فاعلاً. وما أريد أن أصل إليه هنا هو أن القول بصياغة الشعر للثقافة ومن ثم للشخصية العربية، قول في حاجة إلى تبرير نظري، وهو ما لم يفعله الوردي، وتركه لفهم القارئ وثقافته.
نعم، لقد تحدث الوردي عن البداوة الجاهلية التي نشأ الشعر العربي معها، هل أنشأت ثقافتُها الشعرَ العربي؟ أم هو الذي أنشأها؟ في الحالين: ألم تتغير الثقافة؟ ألم يتحرك قطار التاريخ؟ الإجابة يقيناً بالإيجاب، وإذن، هل بقي الشعر على حاله؟ إذن كيف حدث تغير الثقافة وتغير المجتمع مادام الشعر يملك كل الاستبداد ولم يتغير هو ذاته لأن خصائصه البدوية الأولى -بحسب ما أفهمنا الوردي- ما تزال هي خصائص الشخصية العربية في القرن العشرين؟ الإجابة طبعاً من وجهة الوردي هو أنه لم يتغير، ولذلك وصفه بالتقليد ودعا إلى أن يخرج عن هذه الصفة ويتجدد ويتصل بالحياة، أي ألا يبقى رفيعاً وقديماً، هاتين الصفتين اللتين أحاطتاه معاً بدلالة اللاعقلانية واللاواقعية حين وصفه بالأسطورة. ومعنى ذلك أن هناك هيمنة ثقافية غالبة، أو تمَّت لها الغلبة، على غيرها، والشعر هو عنوانها، أو الرمز الذي يحمل لب اللباب لدلالتها، وكأن كل تغير تاريخي هو تغير ثقافي يصطرع جزئياً مع الشعر ثم لا يلبث الشعر أن يعود إلى الهيمنة، حدث ذلك بظهور الإسلام، ثم عاد الشعر إلى الهيمنة منذ العصر الأموي وبداية عصر التدوين، ثم حدث مجدداً بدخول الفلسفة والمنطق الأرسطي والتأليف العقلاني والتجريبي وما حدث جزئياً من تجديد شعري في العصر العباسي، وانتهى - على وجه الرجحان - إلى دحض الفلسفة والمنطق والتجديد ومحاصرة العلوم التجريبية كما في تحريم ابن تيمية للكيمياء.
لكن السؤال يتجدد هنا: من الذي صنع للشعر هذه الغلبة؟ ومن الذي سجنه في قيد التقليد؟ لأن هذه وتلك نتيجتان ومفعولان، يندرجان في الفعل ولا يسبقانه، ومن المؤكَّد أن الشعر جزء تحتويه الثقافة ولا يحتويها، ويندرج فيها ولا يبتدئها. فالثقافة - إذا اقتبسنا تعريفها المنسوب إلى أنشتاين - هي «ما يبقى عندما يتم نسيان كل شيء» ويعني ذلك أنها بنية لا شعورية من المبادئ والأنماط والمفاهيم التي تحكم السلوك والإحساس والفكر وتميز - عند الأنثربولوجيين - شعباً عن غيره، أو زمناً عن سواه. وهي هكذا تسبق الأفراد وتستقل عنهم، بحيث تغدو سلطة معرفية وأخلاقية تحتوي حياة الناس وكل ما يملكونه ويتداولونه اجتماعياً لا بيولوجياً. وبالطبع لا نستطيع أن نحدد من يصنعها لأنه ليس فرداً أو أفراداً وإنما هو خطاب أو كلية اجتماعية، ولكننا نعرف من يوظفها ويستفيد منها، ولذلك يقول ميشيل فوكو: «الثقافة شبكة سلطوية تمنع من يخالفها من التعبير والتجذر في المجتمع ولهذا تحكم على من يواجهها أو يعارضها بالشذوذ والنقص». ويرى إدورد سعيد أن دور الثقافة هو المحافظة على إيديولوجية معينة نافية أو مقيدة لكل ما يخالفها زاعمة بذلك أنها تقوم بدور أخلاقي أو تهذيبي في المجتمع.
هذه الإيديولوجية التي يشير إليها سعيد أو الشبكة السلطوية كما هو تعبير فوكو وَظَّفت الشعر أو الثقافة التي يغلب عليها الشعر ويصنعها، فلماذا لم تكن هي ذاتها موضوع نقد الوردي واتهامه؟ لماذا لم ينح عليها باللائمة؟! وبتعبير أوضح أين الحديث عن بنية التراتب والتسلط والاستبداد التي اصطنعت الشعراء وأنتجت بهم ثقافة كاذبة ومنافقة، وبدوية ومتناشزة اجتماعياً؟ أو الخطاب الديني الذي دعم الاستبداد وطوَّع له، فأنتج به من حيث لا يحتسب تلك الثقافة؟ ستكون الإجابة بالطبع أنهما يندرجان في سياق المفعول لإطار ثقافي أوسع منهما، وما يزال الأصبع يشير إلى الشعر بالاتهام، لكن من الواضح أن من الأولى أن نقول ثقافة الشعر البدوية تلك، أي بخصائصها التي قرأها الوردي، وليس الشعر بمعناه المطلق.
وربما يلفت انتباهنا ذلك التناقض بين تقرير الوردي لما في الشعر من مثاليات وبين تقريره أن الشعر صاغ الواقع الثقافي صياغة سلبية ومضادة لتلك المثاليات، فالذي يحمل السلبية هو اتصاف الشاعر بالكذب والنفاق، وهو ما قرره الوردي أيضاً، وإذن، فالشعر في حدوده تلك بريء من الاتهام. كما يلفت النظر مبالغة الوردي في إشعارنا بأهمية الشعر في الحياة العربية، واستبداده بولع الناس، ويبدو أن ذلك مما صنعه الشعراء ورواتهم من جهة والتأسيس للعلوم اللغوية والدينية حيث الحاجة للشاهد والمثال الشعريين، وسنكون واهمين تماماً لو تخيلنا أن عامة الناس كانوا مشغولين بقصائد البحتري أو أخبار المتنبي أو غيرهما ممن ارتهنوا للتكسب، أو لشعر بلا تجربة وقيمة إنسانيتين.
أما استخدام الوردي للكذب بالمعنى الأخلاقي والواقعي، في وصف الشعر، فإنه يهدر الصفة الخيالية التي لا يقوم فن بغيرها، وبوسعنا أن نصف ما في الروايات والمسرحيات والملاحم والفنون التشكيلية... الخ من خيال بأنه كذب، لكننا سنثبت عجزنا عن استيعاب المدلول الفني فيها حين نتصور أنها يمكن أن تتألف من دون خيال. ولا تخرج مسألة اللفظية التي عاب الوردي بها قافية الشعر العربي وأوزانه والإعراب فيه، نافياً أن نجد هذه القيود الثلاثة مجتمعة في غيره، عن تلك الصفة الفنية، فليس هناك فن بلا قيد، وحتى لو كان الشعر بلا وزن وبلا قافية فإنه يستبدل بهما قيوداً أخرى أشد استعصاءً على المقلدين وغير الموهوبين، وهي قيود داخلية قائمة في الصياغة والكثافة والتوزيع كما هو الحال في قصيدة النثر التي يخفق فيها كل من يستسهلها.
ويبدو الوردي خصماً للذاتية في الشعر عموماً وفي التكسب خاصة، وفي الوقت نفسه فهو يبدئ ويعيد في أن الشعر نشأ مرتبطاً بالقبيلة، أي شعر جماعة، وظل يحمل خاصية تلك النشأة، وهذان أمران مفترقان، بما يعني أنه استخدم مظهرين متضادين للشهادة لقضية واحدة من دون أن يلتفت إلى تناقضهما.
وهذا كله بالطبع يؤكد ولا يقلل من مشاطرتنا للوردي في أمور ثلاثة: أولها غلبة التقليد على تاريخ الشعر العربي، بما في ذلك عدم نجاح أي تجديد في شكل الوزن والقافية، وثانيها: انحياز النقد والثقافة العالمة إلى الشعر، والثالث: ما أحدثه التكسب بالشعر والاستغلال له من فقدان لاستقلالية نوعه الثقافي ونقديته. ومن الحق أن نقول هنا إن إشارة الوردي هكذا كانت من الأهمية والخصوبة، ما جعلها تفجِّر طاقات باحثين ومفكرين كبار، بعد نشر مقالات وكتب الوردي، أو لعل إشارة الوردي نفسها تفجَّرت بطروحات هؤلاء المفكرين وتطلبت قراءة أعمق وأوسع تجلِّي أهميتها. ويأتي في مقدمة هؤلاء المفكرين محمد عابد الجابري، وعبد الله القصيمي، وأدونيس، وعبد الله الغذامي.
وسنقف في حلقة الأسبوع القادم على جزء ختامي، ولكن أجزاء البحث كاملة ستنشر في وقت لاحق إن شاء الله.
الرياض