بنيت قواعد نحو العربية على جمهرة استعمال العرب، ولم ينصرم القرن الثاني إلا وقد دوّن النحو في كتاب بلغ الغاية في الإتقان والتميز، وجاءت الكتب النحوية بعدُ على مرّ العصور مستمدة من (الكتاب) مرددة لما احتواه من قواعد؛ ولكن طائفة من تلك القواعد أهمل استعمالها في نصوص الكتب المؤلفة بعد ذلك، أو ندر استعمالها ندرة هي في منزلة الإهمال؛ ولكن كتب النحو ظلت تردد تلك القواعد، ولم تسلم من ذلك كتب مدرسية كان هدفها تعليم النحو للمبتدئين كالخلاصة التي كتبها ابن مالك في ألف بيت وشروح تلك الخلاصة. ومن أجل ذلك وجدنا الباحث الجاد الأستاذ ناصر بن عبدالرحمن الحمد في رسالته للماجستير (جامعة الملك سعود) يعمد إلى جمع ما هو حريّ بالإهمال من تلك القواعد معتمدًا في جمعه على ثلاثة من أشهر شروح الألفية، وهي شرح ابن عقيل، وشرح ابن هشام، وشرح السيوطي. فلما استوى له قدر صالح من تلك المسائل راح يكشف عن استعمالها في النصوص العربية معتمدًا على محركات بحث حاسوبية وموسوعات عنكبية تكشف عن مدى استعمال الظاهرة النحوية في آلاف الكتب. ومن هذه المسائل التي كشف البحث عن إهمالها الفعلُ الناسخ (اخلولق)، والمضارع من فعل الشروع (طفِق)، واسم الفاعل من (كاد)، واستعمال (حجا) فعلاً من أفعال القلوب، وذكر الباحث أن النحاة أجازوا إعمال (ليت) وإهمالها عند اقترانها ب(ما) الزائدة، وهذا الجواز إنما بني على اختلاف رواية العرب لبيت النابغة الذبياني:
قَالَتْ أَلا لَيْتَما هَذَا الحَمَامَُ لَنَا
إِلى حَمَامَتِنَا أَوْ نِصْفه فَقَدِ
فبعضهم روى (الحمام) بالرفع وآخرون رووه بالنصب، ولكن طرد القاعدة في هذا الباب أولى وهي إهمال عملها؛ لأن رواية الشاهد بالنصب احتمال وما يدخله الاحتمال يبطل به الاستدلال؛ ولأنه لم ترد له نظائر في كلام العرب. واتفق النحويون على جواز اتصال نون التوكيد الثقيلة بالفعل المسند إلى نون الإناث، واشترطوا أن يؤتى بألف تكون فاصلة بين نون الإناث، ونون التوكيد، ولم يذكروا لذلك شاهدًا من كلام العرب، ولم يعثر الباحث إلا على نص واحد ذكره الجمحي منسوبًا إلى أبي مهدي الباهلي (اخسأنانِّ عنّي). وعدّ النحويون (لايكون) من أدوات الاستثناء، من غير شاهد، ولم يعثر الباحث على أمثلة له. وذهب بعض علماء الكوفة إلى جواز التعجب من الأفعال الناقصة، ولم يذكروا له شاهدًا من كلام العرب، ولم يعثر إلا على نص نثري واحد جاء فيه هذا الاستعمال. وذهب شراح الألفية إلى جواز ترخيم المركب المزجي، ولكنه لم يجد له استعمالا في الكتب التراثية. وأوجب النحويون قلب ألف الندبة بعد الكسرة ياءً، وبعد الضمة واوًا في الاسم المضاف إلى ضمير المخاطبة، وضمير المذكر الغائب (واغُلاَمَكِيه/ واغُلاَمَهُوه)، وهذا لا شاهد له من كلام العرب، ولم يرد به الاستعمال. وأجاز بعض النحويين جمع ما ختم بتاء تأنيث جمع مذكر سالمًا (طلحون)؛ ولكن ذلك لا شاهد له من كلام العرب، ولا استعمال له في كتب التراث. وأما استعمال (تي) من أسماء الإشارة مجردًا من هاء التنبية في أوله فلم يجد له استعمالاً في النصوص. ومثله استعمال (تا، ته) من أسماء الإشارة هو مهمل في كلام العرب، ولم ترد عليه إلا أمثلة قليلة من الشعر. وأجاز بعض النحويون توكيد المذكر ب(أجمعان) والمؤنث ب(جمعاوان)، وهذا لم يجد له الباحث استعمالاً في كتب التراث.
ومثل هذا العمل العلمي المعتمد على تطبيقات الحاسوب والعنكبية هو من الأعمال الرائدة التي يمكن أن تحتذى ويوسع نطاقها لتشمل كل قواعد النحو العربي اعتمادًا على مطولاته على اختلافها؛ ولكن مثل هذا الجهد لابد له من فريق بحثي ضخم، ولولا ما تحلى به الباحث الجاد من صبر وشجاعة ما كان ليصل إلى ما وصل إليه.
الرياض