Culture Magazine Thursday  08/12/2011 G Issue 355
فضاءات
الخميس 13 ,محرم 1433   العدد  355
 
نم هانئاً أبا سُهيل فقد وصلت رسالتك
خالد الرفاعي

عرفتُ الأديبَ عبدالكريم الجهيمان من طريقين:

أولهما: علاقة الصداقة الوثيقة التي ربطتني بابنه البارّ ناصر، وجعلتني على مقربة من تاريخ والده، وحاضره، وأفكاره، ورؤاه...، وعلى معرفة لا بأس بها بحجم معاناته المعنوية في مرحلة سابقة من عمره، والجسدية في هذه المرحلة.

وثانيهما: اطلاعي - أثناء اشتغالي على أحد البحوث - على عدد من المقالات التي نشرها في مرحلة صحافة الأفراد، هذا بالإضافة إلى اطلاعي على ما كتب عنه، وأخصُّ هنا ما كتبه الأستاذ محمد القشعمي.

هذان الطريقان أفضيا بي إلى صورة كبيرة لهذا الأديب، سأسلِّط الضوءَ في هذه المقالة على زوايتين من زواياها المتنامية...

الزاوية الأولى: أنه اختطّ لنفسه طريقا إصلاحياً واضحاً منذ البدايات، أسّسه على المطالبة بالحقوق، ومحاربة الفساد، والدعوة إلى العدل والمساواة، والحفاظ على المال العامّ، وعلى المكتسب الوطني، ومنازلة كلّ ما يصنع الطبقية السلبية بين أفراد المجتمع، فضلاّ عما يجذّر العيوب النسقية والسياقية المتعدّدة.

وكان في الآن ذاته أحد أبرز المناصرين لقضايا المرأة، داعياً - في هذا السياق - إلى تقديم قراءة مستنيرة للوحيين، تنجينا من الضيق والحرج، وتفتح للمرأة (وللمجتمع كلِّه) مجالاً أرحب لاكتساب المعرفة، والمشاركة في التنمية...، وله - في قضية المرأة - مواقف بارزة ومستترة يعرفها كلُّ من تابع مقالاته، أو تشرّف بمخالطته...

لقد أطلق الجهيمان في السبعينيات الهجرية الكثير من النداءات الوطنية الصادقة، التي تشبه - إلى حدّ كبير - نداءاتنا اليوم، لكنه زاد على أكثرنا باثنين: أنّ نداءاته سبقت مرحلة تخلّق الوعي الاجتماعي في بلادنا (وهذا يعطيه صفة الريادة بامتياز)، وأنها لم تنطلق من إيديولوجيا ضيّقة، ولم تتحجّب بقبلية أو مناطقية - كما هو حال بعض نداءاتنا اليوم -.

هذه الصفة أعطت هذا الأديبَ قيمةً كبيرةً، وقدّمته إلينا بوصفه مثقفاً حقيقياً، يتكئ على مبادئ إنسانية واضحة، وعلى مثل عليا، لا تتبدّل من حال إلى حال، ولا تتغير بتغيّر موقفه من ذات أو قيمة أو شيء...

أضيف إلى ما سبق أنه توّج ريادته بالجرأة والثبات على الموقف، يجلى لنا هذا عملُهُ في مجال الصحافة، فقد كان يؤمن بأنّ الحرية تؤخذ ولا تعطي؛ لذلك لم يكن - كأكثر رؤساء التحرير اليوم - ينتظر الانفتاح، وإنما كان يسعى إليه - ما أمكنه - دون أن يتورّط في أعمال طائشة غير محسوبة، تسيء إليه وإلى وطنه، وفي رصيده من المقالات التي كتبها أو أجازها ما ليس في رصيد بعض كتابنا اليوم - رغم الفارق الكبير بين مستوى الحرية بين المرحلتين -.

على مستوى الكتابة كان الجهيمان مؤمنا بالوظيفة التنويرية للكاتب، وكان ينطلق من إيمانه بها عندما يكتبُ مقالةً وعندما ينشر، لذلك لم يخن شرف الكلمة التي يرسلها، ولم يخن ميثاق القارئ الذي يتلقاها، وصار يكتب من أعماق مجتمعه إلى المجتمع كلِّه، ولم يتكسب من قلمه بمدح مسؤول، أو دفاع عن ذمة آخر، وإنما اختار الطريق الصعب، وأخذ معنى الرمزية من أضيق طرقها، وأصعب طرائقها..

لقد كان حراً فيما يكتب، وحراً محلقاً في سماوات لا يصلها بعضنا اليوم، ولم يكن يبتغي أكثر من أن يبذر حبوبه ويرحل...، من أن يوصل رسالة صادقة ثم يطوي صحائفه، ويعلق ريشته ودواته، ويسافر إلى الله الغفور الرحيم...

لقد عاش الجهيمان في زمن صعب، كانت الكلمة فيه كما الطلقة، وكانت غريبة وقريبة ومكشوفة أيضاً... ورغم ذلك أرسلها ولم يسوّف أو يتشوّف، ودفع فاتورتها القاسية، فتلقى هجوماً عنيفاً من بعض فئات المجتمع، وأُوقِفَ مشروعه (أخبار الظهران)، واعتقل أيضاً...

اليوم نملك نحن من الحرية فوق ما كان يملك، وبين أيدينا من الوسائط والبدائل، التي تكسر الأطر، وتمدّ الأفق...، ورغم ذلك كله اتخذ بعضُنا الأعمدة والملاحق وسائل إلى تحصيل رغبة، أو دفع رهبة، أو استعداء على خصم، أو تشويه طرف، وابتعد أكثرنا عن النفع العامّ بتجرّد ونزاهة؛ لأن الكلمة لم تعد صعبة كما كانت، والإطار لم يعد ضيقا كما كان، فانكسر الباب، ودخل المجلي والمخفق، والهازل والجادّ...، وهذا حال الانفتاح النسبي، يحمل بيديه التمر والجمر، ونتائجه تكون لنا وتكون علينا أيضاً.

الزاوية الثانية : أنّ الجهيمان لم يؤطِّر نفسه بالنزعة المثالية التي خدعت كثيراً من مثقفينا اليوم، فجعلتهم ظواهر صوتية، وكلاما عابراً لا يترك أثراً...

إنّ القريبين من الجهيمان يعرفون جيداً حدودَ أعماله الاجتماعية، وأنه لم ينقطع عن خدمة مجتمعه وإن توارى عن الأنظار، ولم يحبس كلمة واحدة، يقدِّر أن تكون دواء لداء، أو مخرجاً من ضائقة...

لقد كان يكتب إلى الأمراء والوزراء كتباً خاصة، يسجّل فيها آراءه لعلاج بعض المشكلات، وجاد بماله، فبنى ببعضه مجمّعاً تعليمياً، وقدّم بعضَه دعماً سخياً لأحد المستشفيات حين وجد نقصاً ما في بعض تجهيزاته، وأكاد أجزم أن خلف ما ظهر لي الكثيرَ من الأفكار والمشاريع، قدّمها هذا الرجل، في وقت كان كثير من مثقفينا مشغولين بالتنابز والتدابر والتباغض، ومنصرفين عما هو خير إلى كتابة المدائح والأهاجي...

لقد قدّم لنا الجهيمان نموذجاً للمثقف الحلّ، فكشف لنا أننا نعيش في زمن يتكاثر فيه مثقفو الأزمة، الذين ملؤوا الدنيا ضجيجاً، وغسلونا باليأس والبأس، ولم يقدموا لنا مشروعاً واحداً، فضلا عن أن يجعلوا من مشاريعنا واقعاً نتفيأ ظلاله...

نمْ هانئاً أبا سهيل، فقد وصلت رسالتك، واهتزت الحبوب التي بذرت، فملأت أرضنا مواويل وسنابل...، ولن تهن بإذن الله ولن تحزن، فربك الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً...

وأحسن الله عزاءنا فيك، وعزاء أولادك، الذي علمتهم كيف يبنون أنفسهم فبنوها، واستثمروا نصائحك ومواقفك، ولم يتاجروا بها، ولا باسمك ورسمك...

Alrafai16@hotmail.com الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة