للمدن أحاديث، تعرفها الأرواح الخبيرة جيدا ولا تخطئها الألباب. وفي علاقتنا وإياها، نسقط في حب المدن، أو نمقتها، تمامًا كشأننا مع البشر. وفي الوقت الذي تبرع مدن في إغرائنا، تفلح أخرى في صدنا على نحو مثير للاهتمام.
وتحديداً، تحوز المدن على رضانا، وتضرب صداقة وطيدة مع أرواحنا، يوم أن تجيب عن أسئلتنا كافة، ولا تتركنا نهب الحيرة. وتغدو فريدة وهي تتيح لنا سبل المعيشة فيها من تلقاء أنفسنا، دونما اتكاء على آخرين. ونقطع أيامنا فيها ضمن وتيرة مريحة ومتناغمة ومنسابة. إنها المدن التي صديقة سكانها، حيث تنصبّ كل معالمها لمنفعتهم، ومد يد العون لهم على كافة الصعد.
وعلى نحو ذريع، تقسو بعض المدن، بالمقابل، على أهلها أيما قسوة. وتمعن، إذ ذاك، في إلحاق الأذى باحتياطي الوئام خاصتهم بلا هوادة.
المدن العظيمة هي التي نتوق إلى العودة إليها، بعيد مغادرتها، أو - في الأقل - تضخ في ذاكرتنا وقود الذكرى الجميلة. وتغدق علينا من فيضها، أكثر مما تسلبه منا. وجراءها، نبدو على حال أفضل لا يخطئه الرصد. إنها تلك التي تصنع فينا الفارق، على نحو ملحوظ.
من جهة مقابلة، لا تكون المدن عظيمة حين تراود أهلَها أشواقُ الرحيل، أو تجتاحهم نزعات النقمة. تكون المدن عظيمة، في الواقع، فقط وقت أن يستوطنها السكان وكأنما هي فردوس سرمدي لا يعدلون عن التشبث بتلابيبه.
ليست المدن خرائط، ولا عناوين، ولا جغرافيا. في حقيقة الأمر، هي أبعد من ذلك بأشواط. إنها فحوى، وسياق، وما بين سطور. إنها (اليوم) في أجمل وأثرى وأبدع إطلالاته. تنجب المدن العظيمة الخيارات مثل أم ولود. وبقدر تفاوت خياراتها، تستحوذ المدن على نوط الوفاء عن جدارة.
ولأجل تصنيف المدن، لا معيار أصدق من أوقات الصباح. ففي الصباح تتجلى أخلاق المدن، وتفصح عن أي وضعية خلدت بها إلى النوم، وعن أي حال نهضت عليها.
في فضاءات المدن، تسري موجات عارمة، وإنما خافتة، من شيء ما. تحلق في الأجواء دون أن تلتقطها العين المجردة، أو تنصت لها الأذن العارية، بيد أنها تفعل في السكان فعلتها، ولا ترصدها إلا حساسات الأرواح. ذلك الشيء - ذي الموجات - يصنعه أهلها بأرواحهم، ونزعاتهم، وسجاياهم. ربما يكون - بكلمات أخرى - هو ذاته المدعوّ (هويات المدن). ولا يجسد هويات المدن سوى أمران : البناة - الذين يسمون في بعض البلدان بالآباء المؤسسين -، والأهالي.
وتماماً كما الناس، تتفاوت سمات المدن بتفاوت الجينات خاصتها: بعضها ودودة ومسالمة ومأمونة الجانب. ومنها الكسولة، ومنها الدنيئة، والمنهكة، والهشة، والمبعثرة، والمربكة، والمتقهقرة، والماكرة، والمتقلبة، وهكذا دواليك. وعلى الضفة الأخرى، ثمة مدن لها عين الخصال المناقضة.
للمدن حكايات، يعلم بعض أهلها شيئاً من فصولٍ منها، وخلف الكواليس، يختبئ عنهم أضعاف مضاعفة منها. ولا يتنبأ بعددها، أو يخمن هولها أحد مثلما ما يفعل من اعتلى قمة الجبل الذي تربض المدينة على تخومه، أو أطل من نافذة الطائرة الحائمة في أجوائها، ثم حدق ملياً في وجه المدينة.
المملكة المتحدة
ts1428@hotmail.com