Culture Magazine Thursday  06/10/2011 G Issue 349
الملف
الخميس 8 ,ذو القعدة 1432   العدد  349
 
علاقة الأخ العقيد بالمملكة غريبة معقدة.. كلما ساءت الأمور بين البلدين جاء بنفسه أو أرسل وفداً يطلب تحسين العلاقات.. وكلما وصلت العلاقات إلى درجة معقولة من الود نسفها

ونزلنا نحن في الفندق الرئيسي في بنغازي، وهو طلل تاريخي عاصر أكثر من حرب عالمية. كان التليفون لا يعمل، ولا توجد في الفندق خدمة للغرف، وفي المساء اكتشفنا أن المكيف معطل؛ فاضطر كل واحد منا إلى أن يسحب سريره وينام في البلكونة الصغيرة المطلة على الميناء، غير أننا تقبلنا الوضع بروح فلسفية؛ إذ لم يكن أحد منا يتوقع أن يعثر على واحة من واحات الرفاه السياحي في ليبيا الثورة.

خلال الاجتماعات الرسمية أبدى الأخ العقيد رغبته الأكيدة في تكثيف العلاقات بين البلدَيْن إلى أقصى حد ممكن. طالب بتنسيق تام في السياسة الخارجية، ومشروعات اقتصادية مشتركة، ولجان تنظم التعاون السياسي والاقتصادي وتسويق مشترك للمنتجات البتروكيميائية. هذه النقطة الأخيرة أثارت رعبي الشديد. في اجتماع جانبي ترأسه الرائد عبدالسلام جلود من الجانب الليبي والأمير سلطان من الجانب السعودي اضطررت إلى أن أعارض فكرة التسويق المشترك.

«هناك ثمة صعوبة فيما يخص التسويق المشترك. لقد أقمنا جميع مشاريعنا الصناعية بالمشاركة مع شركات عالمية تملك التقنية وتملك منافذ التسويق. نحن لم نختر هذا الأسلوب حباً في هذه الشركات أو هياماً بالاحتكارات الدولية، ولكن من منطلق علمي واقعي. بدون هذه الشركات يصعب الحصول على التقنية، ويستحيل التسويق في عالم بدأ يشكو التخمة من البتروكيمائيات. لقد طلبت من كل مؤتمر من مؤتمرات وزراء الصناعة العرب أن نحسب حساب التسويق قبل البدء في الإنتاج، ولكن أحداً لم يستمع».

كان الأمير سلطان يدرك أن طبيعة العلاقات السعودية الليبية لا تسمح بشيء من هذا العناق الحار، إلا أنه عالج الموضوع بدبلوماسيته الشهيرة. طمأن الجانب الليبي بأن المملكة ترحب بالتعاون الوثيق في كل المجالات السياسية والاقتصادية، واقترح أن يتم الاجتماع الأول للجان المشتركة في المملكة، إلا أنه نظراً (لزحمة الحج) فإنه يقترح تأجيل الاجتماع إلى فترة ما بعد الحج. وكما توقع الأمير سلطان وتوقعنا، وربما كما توقع الليبيون أيضاً، مرت الأيام وانقضى موسم الحج ولم تجتمع لجان، ولم يتم تنسيق.

خلال المباحثات الجانبية كان هناك إصرارٌ غريبٌ من الجانب الليبي، يطفو مرة بعد مرة على سطح النقاش، على قَطْع البترول عن الولايات المتحدة، وعلى سحب الأرصدة. كان الليبيون يرددون هذه المطالب بطريقة تلقائية لا تتيح مجالاً للنقاش. من جانبنا كنا نحاول أن نشرح أن قَطْع البترول وسحب الأرصدة ما لم يكن جزءاً من استراتيجية عربية عسكرية سياسية اقتصادية واحدة فإنه سيكون عملاً عشوائياً يهزم أهدافه، غير أن أحداً في الوفد السعودي لم يقل لليبيين إننا على علم تام بالاتصالات التي يجرونها مع الولايات المتحدة لتوطيد علاقتهم بها في اللحظة نفسها التي كانوا يطالبوننا فيها بقَطْع البترول عنها. ولم يقل أحد منا لليبيين إننا نعلم أنه خلال الحظر البترولي رفضت ليبيا الالتزام بهذا الحظر. إن النقاش عندما يدور على مستوى الشعارات، والشعارات وحدها، يتحول إلى عملية مؤلمة وعميقة. ولقد كان هذا شأن نقاشنا مع الأخ عبد السلام جلود ورفاقه.

وعبد السلام جلود رجل ينطبق عليه المثل الشهير (سماعك بالمعيدي خير من أن تراه). رجل لا يتحدث إلا بانفعال، ويلقي بالكلام على عواهنه، ويعتبر كل لفظ يتفوه به خلاصة الحكمة، ولا تكاد تمضي في الحديث معه دقائق معدودة حتى تجد أنه من الصعب عليك أن تأخذه مأخذ الجد.

كان يحاول أن يقنعني بصواب نظرية الأخ العقيد في أن (البيت لساكنه)، وقد اتخذ الحوار بيني وبينه شكلاً لا يخلو من غرابة.

بدأ بالقول:

- مثلاً هل يجوز أن يعيش إنسان دون سكن ويملك الدكتور غازي القصيبي عشرة ملايين دولار؟!

- ولكن الدكتور غازي القصيبي لا يملك عشرة ملايين دولار!

- هذا مجرد مثل. مجرد مثل.

- فلنغير المثل إذن ولنقل هل يجوز أن يعيش إنسان دون سكن ويملك الرائد عبد السلام جلود عشرة ملايين دولار.

- ربما كان من الأفضل أن نتحدث بدون ضرب أمثال، وهذا ما كان.

وأعترف بأنني بعد أن اكتشفت فيه صفة السذاجة المنفعلة أو الانفعال الساذج كنت أحرص على استثارته. مرة سألته وبدون أية مقدمات:

(يا أخ عبد السلام لماذا قتلتم موسى الصدر؟).

وكانت إجابته زوبعة مدوية صاخبة من الإنكار، تخللتها صيحات منكرة وإشارات عنيفة جعلت منظره مسلياً للغاية.

ومرة أخرى سألني:

- لماذا لا يثق جعفر نميري بنا؟ إننا نحاول جاهدين تحسين علاقتنا معه، ولكنه يرفض. لماذا؟

- يا أخ عبد السلام هل نسيت؟! لقد دبرتم ضده انقلاباً رهيباً لم يفلت منه إلا بالمصادفة وحدها. هل تلومه إذا فقد الثقة بكم؟

- صحيح. إنا (درنا عليه انقلاب) ولكننا اعتذرنا له بعد ذلك. ألا يكفي هذا؟

لم يكن الرائد يمزح؛ كان يتحدث بجد. بإمكانك أن (تدير) اليوم انقلاباً على رئيس دولة مجاورة يُقتل فيه المئات، وتُسفك الدماء البريئة، وتُنفق الأموال الطائلة، ثم يفشل الانقلاب؛ فتعتذر إليه، وتبدآن صفحة جديدة من الوئام والمحبة!! هكذا يفكر الأخ الرائد. ولله في خلقه شؤون!

في المساء أقام لنا الأخ العقيد حفلة عشاء رسمية، وكان أنيقاً غاية الأناقة في ثوبه الأبيض، وهو خليط عجيب بين بذلة العشاء الغربية والرداء الصيني الثوري المعروف. كان الاتفاق ألا تكون هناك كلمات، إلا أننا فوجئنا في نهاية الاجتماع بخطبة طويلة من الأخ العقيد استمرت أكثر من نصف ساعة. لم يخصِّص للترحيب بنا سوى جُمَل قليلة، انتقل بعدها إلى خيانة السادات وسقوط (الخندق) المصري، وخصص بقية الخطاب لهجوم عنيف على الولايات المتحدة وعلى ليبيا والمملكة العربية السعودية؛ لأنهما تزودان الطائرات الأمريكية التي تقصف الفلسطينيين بالبترول. واستشهد في خطابه بآيات عدة من القرآن الكريم. لم يكن في المضمون جديد، ولكني فوجئت بطريقته في الحديث. كانت هذه هي المرة الأولى التي أستمع فيها إلى خطاب كامل من العقيد، والمرة الأولى التي أراه فيها يُلقي خطاباً. كان يتحدث مرتجلاً وبدون ورقة أو رؤوس أقلام، وينتقل من نقطة إلى نقطة بتسلسل منطقي واضح. كان يتحدث بهدوء، دون أدنى أثر للانفعال، ودون الحركات العنترية التي تلازم الخطباء، والعرب منهم بصفة خاصة. كان الفرق بين عنف المضمون وهدوء الأسلوب يُثير الدهشة. مهما قيل عن جنون الأخ العقيد فإن المجنون (التقليدي) لا يستطيع أن يعبِّر عن نفسه بهذا الوضوح وهذا الهدوء. وكأنما أحس العقيد أنه بإلقاء الخطاب خالف الاتفاق الذي تم عند تنظيم برنامج الزيارة بألا تكون هناك خطابات، فقام مرة أخرى بعد جلوسه وقال (لقد كان هذا الخطاب ترحيباً من جانبنا بالملك خالد، ولكننا نعفيه من الرد). وهكذا كفى الله المؤمنين القتال.

أغرب ما لاحظته خلال الزيارة هو افتقار العقيد إلى الشعبية بين الجماهير. المفروض في زعيم ثوري شاب مثله أن يثير الكثير من الحماسة ولو بين فئات معينة من الشعب، إلا أنني لم أر ما يدل على ذلك. في كل مكان نذهب إليه كنا نرى مجموعة المطار: الشعارات نفسها والوجوه نفسها. قطعنا في صحبة العقيد مئات الكيلومترات، ولم نجد أية جموع أو جماهير.

في ثاني أيام الزيارة اصطحبنا العقيد في رحلة طويلة إلى الجبل الأخضر، وهو مشروع زراعي ضخم أقامه الإيطاليون، وتحول إلى مشروع حكومي، ثم وزَّعه العقيد على الفلاحين على أساس أن (الأرض لزارعها). في آخر لحظة ارتأى العقيد أن نستقل حافلة بدلاً من السيارات الصغيرة. وهكذا أُتيح لنا أن نقضي أكثر من ثلاث ساعات في نقاش يرق ويعنف مع الأخ العقيد.

لم يكن في الحافلة سوى الأعضاء الرسميين في الوفدين؛ الأمر الذي أتاح لنا أن نتحدث بحرية وانطلاق. وكانت هذه التجربة أمتع ما في الزيارة.

بدأت الرحلة بمجموعة من الأوامر السريعة المتلاحقة، وجَّهها العقيد إلى عبد السلام جلود.

- عبد السلام! (دير قهوة وشاهي)!

- عبد السلام! (أخبر الشرطة ألا يسرعوا).

- عبد السلام! (ما قلت لك دير قهوة وشاهي)؟

- عبد السلام! (قل للشرطة أن يمشوا بدون إطلاق الصفارة)!

- عبد السلام!

وكان الأخ الرائد يقفز ويعود إثر كل أمر من هذه الأوامر، وكانت لهجة العقيد جارحة لا يستطيع الرجل المهذب أن يستخدمها مع خادم في منزله. كان من الواضح أن الأخ الرائد ليس شريكاً في السلطة، ولكنه مجرد ظل لصاحب السلطة.

وكان من الواضح أن قادة الثورة الآخرين هم بدورهم مجرد ظلال باهتة للأخ العقيد. شعرنا جميعاً بالحرج ونحن نرى هذا الأسلوب في المعاملة حتى أن الملك خالد تدخل لمواساة الأخ الرائد.

- يا أخ عبد السلام. شكراً. خادم القوم سيدهم.

خلال هذه الرحلة أُتيح للأخ العقيد أن يتحدث عن الكثير من أفكاره ونظرياته بدءاً برأيه في السُّنة النبوية، وكان الملك خالد حريصاً على أن يسمع منه شخصياً تكذيباً لما بلغه من إنكاره لحجية السُّنة. ولعلني لا أبالغ إذا قلت إن هذا الموقف الديني من جانب القذافي أزعج الملك أكثر من أي موقف سياسي اتخذه العقيد ضد المملكة، إلا أن العقيد لم ينكر بل أوضح!

(أنا لم أنكر السنة كلها. أنا آخذ بالسنة العملية. كل مسائل الصلاة والصيام والحج والزكاة مما كان الرسول يفعله أمام ........




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة