Culture Magazine Thursday  06/10/2011 G Issue 349
الملف
الخميس 8 ,ذو القعدة 1432   العدد  349
 
شعرت بشيء يشبه الشفقه ربما لأنني أحسست أنه كان بإمكان العقيد أن يكون رجلاً عظيماً!

المسلمين كلهم أنا أعترف به. ولكنني لا آخذ بالسنة القولية. أكثر الأحاديث المنسوبة إلى الرسول ملفقة ومزيفة وكتبت بعد وفاته بمدة طويلة. كيف يمكن الاعتماد عليها؟ أمامنا القرآن.. أنا لا أعترف إلا بالقرآن. لا أناقش إلا بما جاء في القرآن».

وانبرى السعوديون للردّ. وكان أفصحهم الشيخ ناصر الشتري إمام الملك ورفيقه الدائم ومستشاره في الشؤون الشرعية. إلا أن الأخ العقيد لم يقتنع.

ثم خرج علينا العقيد برأي «قذافي» آخر:

- «في القرآن إشارات ودلالات إلى أن الإسلام هو دين العرب وحدهم. محمد كان عربياً، والقرآن نزل بلسان عربي للعرب. الإسلام لا يصلح إلا للعرب والعرب لا يصلحون إلا للإسلام. وبالتالي يجب أن يكون العرب جميعاً مسلمين، أما غير العرب فلا ينبغي أن يكونوا مسلمين. إن أي مسلم غير عربي هو شعوبي مخادع لم يدخل في الإسلام إلا للكيد له».

وهنا انطلق الشيخ ناصر الشتري في محاضرة طويلة معززة بالقرآن الكريم والأحاديث النبوية مؤداها أن الإسلام للبشر جميعاً. إلا أن الأخ -العقيد رفض أن يتزحزح عن موقفه.

سألته:

- ماذا ذن عن الخميني وثورته في إيران؟

كان الجواب مفاجأة صاعقة:

- الفرس كلهم مجوس. شعوبيون ومجوس. كانوا وما زالوا. والخميني لا يختلف عنهم.

العقيد يعلن جهاراً نهاراً أن الثورة الليبية والثورة الإيرانية أختان شقيقتان ويقدم سائر أنوع الدعم إلى إيران وهو يعتقد في قرارة نفسه أنهم «مجوس وأعداء للإسلام».

انتقل الحديث بعد ذلك إلى تعدد الزوجات:

«تعدد الزوجات مبدأ لا يعرفه الإسلام. ولا يعرفه القرآن. اقرأوا النص القرآني {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء......}. هذه الرخصة مقصورة على الفتيات اليتيمات اللواتي يتربين في حضانة رجل يود حمايتهن عن طريق الزواج بهن. فيما عدا ذلك لا يجوز التعدد مطلقاً».

يبدو أن الأخ العقيد لم يقرأ ما كتبه المفسرون حول أية «وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى». أو قرأه ولم يقتنع به. وانقض الشيخ ناصر كعادته على الأخ العقيد. وكان الملك خالد يتابع النقاش وهو يبتسم وكأنه يستغرب «ضلال» هذا الابن العنيد. في النهاية قال العقيد للشيخ ناصر:

«كيف أتناقش معك؟ أنت رجل رجعي دماغك «متكلس» تبحث عن تبرير لزوجاتك الأربع، وأنا رجل ثوري متحرر أنظر إلى الإسلام نظرة ثورية متحررة».

وبهذا التصريح الثوري توقف النقاش في تعدد الزوجات، وانتقلنا إلى نقاش شائك جديد: الاشتراكية في الإسلام.

العقيد يصر على أن الإسلام نظام اشتراكي، واشتراكي بالطريقة التي يفهمها هو: البيت لساكنه وشركاء لا أجراء. والسعوديون يرون أن هذه هي نظرة العقيد لا نظرة الإسلام. وتطور النقاش وتشعب. وكانت هناك اتهامات صريحة ومبطنة من الجانبين. وكنت حريصا على أن أستوعب آراء العقيد وأستمع إلى المزيد منها ولهذا لم أدخل في الحوار الاقتصادي.

قال له الأمير سلمان:

- إذا سلمنا بنظرية شركاء لا أجراء وهي أن المصنع يجب أن يكون للعاملين فيه، فماذا نفعل بمرافق البترول وهي ملك الأمة كلها؟ نملكها للعاملين فيها.

- هذا وضع استثنائي.

- ومصانع الحديد والصلب؟

- هذا وضع استثنائي أيضاً.

قال له الملك خالد:

- لدي في مزارعي أكثر من ألف مزارع من جميع أنحاء الدنيا وأنا بالتأكيد لا أنوي مشاركتهم!

بدبلوماسية غير معهودة ولا متوقعة رد العقيد:

- لا. هذا الوضع يختلف هؤلاء أجانب وأبناء سبيل.

وفي توظيفهم إحسان إليهم. أنا أتحدث عن المواطنين.

جرنا الحديث إلى نظرية العقيد الثالثة وكتابه الأخضر. لو لم أكن جالساً على مقربة من العقيد أستمع بأذني إلى كل كلمة قالها لما صدقت أنه يملك جرأة كهذه:

- نظرتي هي طريق المستقبل. لا للعرب والمسلمين فحسب بل للعالم الثالث كله وللبشرية كلها. لقد أفلست الشيوعية وانكشف إفلاسها. أفلست الرأسمالية وانكشف إفلاسها. لم يبق إلا النظرية الثالثة. الشيوعيون أصيبوا بذعر شديد عندما ظهر الكتاب الأخضر. أدركوا أن الماركسية مقضي عليها بالفناء وأنها ستنتهي على يد نظريتي. ستثبت الأيام لكم ذلك. تذكرت الشعارات المأخوذة من الكتاب الأخضر والتي تملأ كل ميدان وشارع في جماهيرية العقيد. «اللجان في كل مكان» «البيت لساكنه» النظام النيابي تزييف انتخابي» في الحاجة تكمن الحرية». أما أطرف هذه الشعارات على الإطلاق فشعار «لكل راكب مركوب». وتفسيره -بصرف النظر عن تأويلات الخبثاء من الرجعيين والرأسماليين - أن لكل مواطن الحق في تملك وسيلة المواصلات المناسبة!

وتذكرت المؤتمر الذي انعقد قبل فترة في ليبيا وحضره مندوبون من مختلف أنحاء العالم لمناقشة الكتاب الأخضر. قال لي صديق ليبي: إن عشرات المدعوين من أساتذة جامعيين وصحفيين وكتاب قضوا أسبوعين يبحثون النظريات التي تضمنها الكتاب. في النهاية فاجأهم الأخ العقيد بزيارة من زياراته الليلية (بعد منتصف الليل) ليقول للمجتمعين: إنهم في واد والكتاب الأخضر في واد. وقال إنه من الآن فصاعداً سوف يتولى شرح الكتاب بنفسه ولن يعتمد على أحد.

تذكرت هذا كله فسألته:

- فخامة الرئيس. هل انتهت أجزاء الكتاب الأخضر أم أن هناك بقية؟

- الكتاب الأخضر عالج ثلاث معضلات: المعضلة الاجتماعية. والمعضلة الاقتصادية. والمعضلة السياسية.

ووُضعت لها الحلول. لقد انتهى الكتاب نفسه. ولكن بقيت الشروح والهوامش.

- ومن سيكتبها؟

- أنا.

في الحافلة ظل النقاش مستعرا بين الأخ العقيد، بمفرده، من ناحية، وبين أعضاء الوفد السعودي، مجتمعين، من ناحية أخرى. وكان الموضوع هذه المرة حول التقويم الإسلامي الذي غيره العقيد فجعله يبدأ بوفاة الرسول عليه الصلاة والسلام لا بهجرته. شرح لنا العقيد نظريته:

في تاريخ كل إنسان حدثان رئيسيان: ميلاده ووفاته. هذان هما أهم تاريخين وما عداهما لا يهم كثيراً. هجرة الرسول من مكة إلى المدينة حدث إقليمي بحت قد يهمكم أنتم في المملكة ولكنه لا يهم التاريخ. لا يهم التاريخ إلا الميلاد والوفاة.

ولقد أرّخ المسيحيون بميلاد المسيح فينبغي أن نخالفهم فنؤرخ بوفاة الرسول.

علا احتجاج الوفد السعودي يتقدمهم، بالحجج الشرعية والتاريخية، الشيخ ناصر الشتري، وبينما كان النقاش محتدماً كنت في شبه ذهول. كيف خفيت الأبعاد النفسية والسياسية والاجماعية والتاريخية للهجرة على العقيد؟. كانت الهجرة «مولد» أول مجتمع إسلامي في التاريخ. خطر لي وقتها أن نصف المتعلم أخطر من الجاهل. والعقيد فيما يخص الشؤون الإسلامية، لم يتجاوز مرتبة نصف المتعلم.

العقيد لا يزال متشبثاً برأيه:

- من الذي أرّخ بالهجرة؟ هل هناك نص في القرآن؟ هل أمر به الرسول؟ إنه اجتهاد من عمر بن الخطاب. مجرد اجتهاد. وعمر بن الخطاب حاكم مسلم وأنا حاكم مسلم وله اجتهاده ولي اجتهادي.

قال الملك خالد مذهولاً:

- أنت مثل عمر بن الخطاب؟!

في وسط الوجوم الذي خيم على الجميع إثر هذه المقارنة بين عمر بن الخطاب والأخ العقيد، حسم العقيد القضية كعادته «الأيام بيننا - سوف ترون. خلال عشر سنوات لن يكون هناك إنسان في العالم الإسلامي يأخذ بالتاريخ الهجري. سوف يتبع جميع المسلمين تقويمي».

ثمة حقيقة أكيدة اتضحت لي خلال النقاش. كل الأفكار التي يرددها العقيد تنبع من العقيد في شكلها وموضوعها. لا أعتقد أن هناك صلحة لما يتردد أحياناً أن العقيد يردد كالببغاء ما يُعد له من نظريات «ومقولات». لا شك أن للعقيد عقلاً لا يخلو من أصالة وتحرر ومغامرة. ولو أتيح لهذا العقل قدر أكبر من الثقافة والانضباط لتغيّر تاريخ الثورة الليبية، وربما تاريخ العالم العربي.

بعد العودة إلى بنغازي لم أستطع مقاومة الرغبة في مداعبة العقيد. كان ينتظر سيارته ونحن بقربه عندما قلت له:

- يا فخامة الرئيس هل لا زلت تركب «الحمامة»؟

كنت أشير إلى قصة من قصص العقيد في أوائل الثورة.

ترجم كلمة «بيجو» -سيّارته- إلى العربية. وبدأ أحد اجتماعاته قائلاً:

- لقد أتيت الآن على «حمامتي»!

ضحك العقيد وقال:

- يا أخي يبدو أنك متتبع لتاريخي.

ولم أنكر التهمة ولم أتبرأ من الشرف!

في مرة ثانية قلت له إن هناك خطأ لغوياً في شعار من الشعارات الخضراء.

- كيف؟

- أنت تقول «في الحاجة تكمن الحرية» وتقصد بذلك أن الشخص المحتاج لا يمكن أن يكون حراً.

- هذا هو المقصود.

- غير أن كلمة «تكمن» لا تؤدي هذا المعنى. «تكمن» تعني أن الحرية موجودة ولكنها غير ظاهرة. «كمن» الشيء أي اختفى عن الأعين رغم وجوده. ومن هنا جاء قولهم «كمين».

وقول الشاعر «ككمون النار في الحجر». أقترح استخدام كلمة أخرى مثل «تزول» أو «تنعدم».

بدا على محيا العقيد شيء من الضيق ولم يقل شيئاً. لقد سمع العقيد الكثير من الاعتراضات على الكتاب الأخضر. ولكن هذا، فيما يبدو، كان أول نقد لغوي.

إيمان العقيد بكتابه الأخضر ظاهرة تستدر العجب والرثاء معاً.

قال مرّة:

- سمعت أن الناس في المملكة يتخاطفون الكتاب الأخضر. عشرات الآلاف من الناس. وأكثر من يطلبه الفتيات.

ولم أقل شيئاً. ولم يقل أحد ممن سمع الملاحظة شيئاً. ماذا سيكون شعور العقيد لو أدرك أن عدد الذين قرأوا الكتاب الأخضر في المملكة لا يتجاوز الخمسين، أو المائة في أفضل الأحوال؟

طيلة الزيارة كنت أفكر: هذا الرجل الغريب ما سرّه؟ ما الذي يجعله يتحرك، كما يقول التعبير الإنجليزي؟

من مراقبتي الدائمة له، من حرصي على سماع كل كلمة تلفظ بها، من استقرائي لتصرفاته وتصرفات من حوله، أيقنت أن هناك مفتاحاً أساسياً للدخول إلى شخصيته بكل تعقيداتها ومتناقضاتها وأبعادها. الطموح، الطموح المحترق، الطموح الأعمى، الطموح غير المحدود.

العقيد يعادي بدافع من طموحه؛ ويصادق بدافع من طموحه؛ يتحد بسبب طموحه؛ وينفصل بسبب طموحه؛ يتآمر ويدبر القلاقل والاضطرابات بدافع من طموحه؛ يتناقض مع نفسه بدافع من طموحه.

ماهو طموح العقيد؟

ببساطة يريد أن يكون زعيم العالم الثالث كله، لا زعيمه السياسي فحسب بل معلمه الروحي والفكري.

هذا سبب حرصه على التدخل في أوغندا وفي تشاد وفي أيرلندا وفي شؤون الهنود الحمر.

«الجماهيرية» و»الكتاب الأخضر» و»النظريات الثالثة»، أفكار ولدت على مهد الطموح. كل تصريحات العقيد السياسية من مواليد الطموح. كل اجتهادات العقيد الإسلامية من مواليد الطموح.

أما أولئك الذين يعتقدون أنه «مجنون» أو «مراهق» أو «معقد» نفسياً فيتجاهلون حقيقة لا يحتاج المرء إلى أكثر من دقائق في الحوار معه لكي يكتشفها؛ وهو أنه يتحدث مع رجل حاد الذكاء لا يبدو عليه أدنى دليل على الاختلال العقلي أو الاضطراب النفسي.

على أنه يتبقى هناك سؤال مهم:

«ألا يعتبر الطموح، عندما يصل هذا الحد من العنف، نوعاً من أنواع الجنون؟».

لا بل إن لنا أن نطرح السؤال بصيغة أخرى:

«ألا يعتبر الطموح، عندما يصل هذا الحد من العنف، أخطر أنواع الجنون».

سؤال يرد عليه الكثيرون بالإيجاب:

في مطار بنغازي، وضع الملك خالد يده في يد العقيد.

في تحية مشتركة «للجماهير».

عندما تحركت الطائرة نظرت إلى العقيد من النافذة، وكان يقف ببذلته البيضاء شامخاً معتداً بنفسه، وبثورته، وبنظريته.

شعرت بشيء يشبه الشفقه. ربما لأنني أحسست أنه كان بإمكان العقيد أن يكون رجلاً عظيماً!




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة