الثقافية - علي بن سعد القحطاني
مرت ذكرى وفاته الأولى و(المجلة الثقافية) متوقفة في الإجازة الصيفية، لكن معالي الدكتور غازي القصيبي حاضر في كل أعدادها، فقد أشغل القصيبي النقاد في عصره.. لقد استفحت (المجلة الثقافية) في عددها الأول الصادر في 30-12-1423هـ الموافق 3 مارس 2003م بلقاء أجراه الزميل الأستاذ تركي بن إبراهيم الماضي مع معالي الدكتور القصيبي، وفيه تحدث عن قصته مع المتنبي وحكاية العمر الذي يظل هاجساً يؤرقه.. كما أجرى الدكتور إبراهيم بن عبدالرحمن التركي مدير التحرير للشؤون الثقافية لقاءً مطولاً معه في صفحته الشهيرة «واجهة ومواجهة» في جزئين نشرا بالجريدة الأم (الجزيرة) في مستهل عام 2003م. وظل غازي القصيبي -رحمه الله- حاضراً في كل أعداد المجلة وبالأخص في العدد (273) العدد الاستثنائي عندما احتفت المجلة بسيرته ومسيرته واستضافت كوكبة من العلماء والأكاديميين والمثقفين للإدلاء بأصواتهم في مسيرة غازي القصيبي الإدارية والإبداعية والثقافية.. ومن ثمَّ جُمعت هذه الأوراق في كتاب أصدرته جريدة الجزيرة تحت مسمى (الاستثناء) قال عنه الراحل: إن هذا الكتاب أهم من جائزة نوبل بالنسبة إليه. نستحضر ذكرى القصيبي مع تداول الأيام وما تناقلته وكالات الأنباء من انتهاء عصر ديكتاتورية الصنم والجنون معمر القذافي الذي لم يترك لقباً في المشرق والمغرب إلا وتسمى به.. بل من حمقه وجنونه تسمى بملك ملوك إفريقيا.. ونسي في خضم فرعنته أن الأيام تتربص به كما تربصت بغيره من الجابرة والطغاة، ولله الأمر كله يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء. استشرف غازي القصيبي -رحمه الله- صورة القذافي في كتابه (الوزير المرافق) الذي يظل واحداً من أمتع كتبه بما تضمنه من ذكريات وحوارات مع عدد من الشخصيات العالمية، حيث رافق الدكتور القصيبي عدداً من رؤساء الدول الذين يزورون المملكة في أعوام مضت.. وقد أفرد القصيبي لمعمر القذافي فصلاً كاملاً من كتابه تحت عنوان: (مع الأخ العقيد.. في الحافلة)، حكى فيه عن صبي ليبيا، مجنون ليبيا، مراهق ليبيا، عقدة ليبيا. كان القصيبي -رحمه الله- يراقب هذه الشخصية عن كثب.. فماذا قال عنه.. ننقل لكم هذا النص بالكامل:
مع الأخ العقيد في الحافلة
قال عنه أعداؤه كل ما يمكن أن يقال في إنسان. وقال فيهم ما هو أسوأ قالوا عنه صبي ليبيا، مجنون ليبيا، مراهق ليبيا، عقدة ليبيا، الكافر، الملحد، وهاجم بدوره الدنيا كلها تقريباً من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. كنت أتطلع إلى لقاء هذا الرجل، أود أن أراقبه عن كثب وأحاوره إن أمكن. هذا الرجل الذل ظل يقود ليبيا طيلة عقد عاصف من السنين هذا الرجل الذي خرج بنظرية يعتقد -جازماً -أنها ستحطم الشيوعية والرأسمالية هذا الرجل الذي جمع أفكاراً من هنا وهناك وتصور أنه نجح- لأول مرة في التاريخ- في إقامة دولة (جماهيرية) تحكمها الجماهير نفسها مباشرة وعن طريق مؤتمراتها ولجانها. هذا الرجل الذي رفض أن يقى نفسه كما يفعل بقية الانقلابيين العرب وظل (مجرد عقيد). هذا الرجل الذي يحاول (تنوير) الإسلام بطريقته الخاصة، وتفسير السنة بطريقته الخاصة.
وعلاقة الأخ العقيد بالمملكة غريبة ومعقدة كلما ساءت الأمور بين البلدين جاء بنفسه أو أرسل وفداً يطلب تحسين العلاقات. وكلما وصلت العلاقات إلى درجة معقولة من الود نسفها بنفسه وأعادها إلى مرحلة الفتور. أصبحت هذه الظاهرة ملازمة للعلاقات الليبية - السعودية منذ أول يوم من أيام ثورة الفاتح. قال عن الملك فيصل ما لم يقل مالك في الخمر.
ثم قرر أن يجيء بنفسه ليعتذر وليطلب من (الأب) أن يغفر (لابنه العاق). بعدها بشهور قتل الملك فيصل وكانت إذاعات العالم العربي تثبت القرآن الكريم ما عدا إذاعة ليبيا. ولم يكتف الأخ العقيد بذلك فقد صرح بعدها أنه يستغرب هذه الضجة لمجرد أن (تاجر بترول) قد مات.
يبدو أن شخصية الأخ العقيد لا تعرف الاعتدال فهو إما في حالة عشق عنيف أو كره صاخب. مع مصر، مع السودان، مع سوريا، مع مالطا، مع تشاد، مع فرنسا، مع إيطاليا. باختصار مع الجميع. لا يكاد العقيد يعترف إلا بنوعين من أنواع التعامل الدولي: الوحدة الفورية الاندماجية أو الحرب المسلحة!
كانت علاقة ليبيا بالمملكة تمر بحالة من الفتور سنة 1979م عندما قرر الأخ العقيد أن يزور المملكة ومنطقة الخليج. وكالعادة طلب فتح صفحة جديدة ونسيان الماضي. كما طلب من هذه الدول أن تشارك في احتفالات العيد العاشر (لثورة الفاتح المجيدة). وأبدى دهشته لما شاهده من تقدم وقد مرت زيارته للمملكة بسلام لولا حادثة غريبة كادت أن تعصف بالزيارة وهي في منتصفها.
أرادت زوجة العقيد أن تزور سوق الرياض مع عدد من السيدات الليبيات من أقاربها. وأصر الليبيون على أن تتم الزيارة بدون مرافقين وبدون حراسة وبدون ترتيبات أمنية مسبقة. وبالفعل ذهب الليبيون ولم يكن معهم سوى مندوب واحد من المراسم الملكية. صادفت جولتهم وقت صلاة الظهر حيث تقفل الأسواق وينشط رجال (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) في حماية الطرقات مما يعتبرونه مخلاً بالفضيلة والآداب. كانت إحدى المربيات المرافقات لزوجة العقيد ترتدي ثوباً قصيراً بعض الشيء، بمقاييس هيئة الرياض، الأمر الذي أدى بأحد رجال (الهيئة) إلى زجرها. كان مع زوجة العقيد أخوها الذي ثارت ثائرته فصبّ جام غضبه على (الشيخ) وتجمع الناس وتكهرب الجو، وكاد الأمر أن يتطور إلى مشاجرة يدوية لولا أن مندوب المراسم تمكن من إركاب زوجة العقيد ومرافقيها السيارات والعودة بهم إلى قصر الضيافة.
غضب العقيد غضباً شديداً واعتبر الحادثة إهانة مقصودة، وأصر بأن تستعد طائرته للإقلاع الفوري، وسمع الملك خالد بالحادثة، كما سمع بها الأمير فهد، فأسرعا إلى قصر الضيافة يعتذران للضيف ويؤكدان له أن أحداً لم يعرف زوجته ولم يقصد إهانتها، وأنه لولا إصرار الليبيين على عدم حضور رجال الأمن لما حدث ما حدث. رفض العقيد أن يقتنع أو يرضى في نهاية المطاف قال له الملك خالد إنه لا يستطيع أن يمنعه من السفر، ولكنه يحب أن يؤكد له أن الشامت الأكبر إذا فشلت الزيارة سيكون أنور السادات. اقتنع العقيد بالبقاء على مضض ولكنه أصر على أن يقابل رئيس الهيئة في الرياض ليحاوره عن نظرة الإسلام إلى المرأة وإلى الحجاب رتب الموعد بالفعل وقضى رئيس الهيئة أكثر من ساعة في جدل مع العقيد. أشك كثيراً أن أحداً من الطرفين قد استطاع أن يقنع الطرف الآخر بوجهة نظره.
كنتيجة لهذه الزيارة تحسنت العلاقات بين ليبيا ودول الخليج وذهبت وفود عالية المستوى لحضور الذكرى العاشرة لثورة الفاتح (قضى الوفد السعودي برئاسة الأمير عبدالله بن عبدالعزيز وقتاً مؤلماً بين الترتيبات الفوضوية والسكن المزعج، والاستعراض العسكري الذي استغرق قرابة عشر ساعات). ثم بعد عدة شهور طلب العقيد من الملك خالد أن يرد الزيارة.
كان هناك تردد واضح في قبول الدعوة. إلا أن العقيد اتصل بالملك هاتفياً، وكان الملك يقضي عطلة قصيرة في جنيف، وأصر على حضوره. وهكذا في صيف 1980م ذهب الملك مع وفد رسمي كبير ضم الأمير سلطان والأمير سلمان والأمير ماجد والأمير سعود الفيصل والدكتور رشاد فرعون وكاتب هذه السطور.
قبل السفر كانت هناك مشكلة بروتوكولية. بعد إعلان (الجماهيرية) وتشكيل (اللجان في كل مكان) وإعطاء السلطة (للمؤتمرات الشعبية) وتحويل الوزارات إلى (أمانات)، تخلى العقيد عن كل مناصبه وألقابه الرسمية وأصبح (قائد الثورة)- لا أقل ولا أكثر- على هذا الأساس أصبح في حل من المراسم والبروتوكولية فلا يستقبل أحداً ولا يودع أحداً ولا يلتزم بمقابلة أحد. إلا أن السيد أحمد عبدالوهاب رئيس المراسم الملكية السعودية، الذي قضى في عمله قرابة عشرين عاماً، عاصر خلالها من التجارب ما جعله من أحسن رؤساء المراسم في العالم، لم يقتنع بهذا المنطق الثوري لقد أفهم الليبين بطريقته الفريدة التي لا تغضب أحدا أنه إذا لم يكن الأخ العقيد في المطار على رأس المستقبلين فإن الملك لن ينزل من الطائرة غير أنه لم يكن هناك مبرر للتخوف فقد كان العقيد بالفعل في انتظارنا عند سلم الطائرة. أعد العقيد حشداً من طائراته العسكرية لمرافقة الطائرة الملكية تجاوز القدر المعتاد في مثل هذه المناسبات كنت أدعو الله كلما رأيت إحدى المقاتلات الليبية تقترب من الطائرة الملكية أن يكون قائد المقاتلة قد تلقى من التدريب ما يمنعه من الاصطدام (العفوي) بطائرتنا على أرض المطار في بنغازي حشد العقيد بقية أسطوله الجوي كان هناك ما لا يقل عن ثلاثمائة طائرة عسكرية صفت الواحدة بقرب الأخرى خطر لي وقتها أن عود ثقاب واحد يمكن أن يؤدي إلى حريق هائل يودي بكل هذه الدمى الثمينة من دمى الدمار.
كان من الواضح من اللحظة الأولى أن الاستقبال (الشعبي) مرتب ترتيباً رسمياً الشباب يلبسون الثياب نفسها، ويرددون الشعارات نفسها المنطلقة من مكبرات الصوت. ولقد تأكد هذا الانطباع عندما رأينا الوجوه نفسها وسمعنا الشعارات نفسها في أكثر من مكان خلال الزيارة. ويبدو أن الهاتفين تحمسوا مع الشعارات التي يرددونها، وكلها عن العقيد والثورة، فدخلوا مع المستقبلين واختلط الحابل بالنابل وأصبح المشي مخاطرة أو كالمخاطرة فقد أكثر من عضو في الوفد السعودي عباءته في غمرة هذه الحماسة المتشنجة.
طلب العقيد من الملك أن (يعذره) على حرارة الاستقبال الشعبي وأضاف أنه لا يعرف شيئاًُ عنه فالموضوع كله في يد (اللجان الشعبية) في بنغازي. وأضاف العقيد أنه لا يتدخل في أعمال (اللجان الشعبية) لا من قريب ولا من بعيد.
وهنا دار بين الرجلين هذا الحوار الطريف:
- يا فخامة الرئيس. هل الحكومة الآن في بنغازي؟
- الحكومة؟ ليست لدينا حكومة. لقد ألغينا الحكومة والحكم الآن للجماهير عن طريق المؤتمرات واللجان.
- والوزراء؟ هل هم هنا؟
- الوزراء؟ ليس لدينا وزراء. لقد ألغينا الوزارات. لا توجد الآن سوى أمانات منبثقة من المؤتمرات الشعبية.
- وأنت؟ أين تتواجد هذه الأيام. أنت (وخوياك)؟
- في بنغازي.
- اذن فالحكومة في بنغازي! لماذا لم تقل لي هذا من البداية؟!
العلاقة غريبة بين هذا الشيخ المتدين المحافظ الذي يقترب من السبعين والثوري الشاب الذي لم يبلغ الأربعين. فيها من الجانبين قدر مما يسمونه بالإنجليزية الحب - الكره فيها، وإن أنكر الطرفان، شيئا من الإعجاب المكتوم لعل العقيد كان يرى في الملك ملامح من شخصية أبويه. ولعل الملك كان يرى في العقيد ابناً ضالاً يمكن بشيء من الصبر هدايته إلى سواء السبيل. ثم إن هناك كرههما العميق المشترك للسادات.
رغم أن الملك خالد لم يكن من المتمسكين بحرفية البروتوكول، إلا أنه كان يصر على مناداة العقيد (فخامة الرئيس). من ناحية لم يستعمل العقيد كلمة (جلالة الملك) على الإطلاق. كان يناديه (الملك خالد). وعقدة العقيد من الألقاب قديمة ومعروفة. فقد أثار ثائرة الملك الحسن الثاني ملك المغرب في أول مؤتمر قمة يحضرانه معاً عندما اصر على أن يناديه (يا أخ حسن)!
نزل الملك في قصر الضيافة، وهو مبنى صغير قديم في أطراف بنغازي