Culture Magazine Thursday  29/04/2010 G Issue 308
فضاءات
الخميس 15 ,جمادى الاولى 1431   العدد  308
 
أمام مرآة «محمد العلي»
الحداثة الشعرية في قصائد محمد العلي (1-3)
علي الدميني

مفتتح:

(كل تعبير فني، هو في حقيقته وبشكل عام، تعبير منزاح، مفارق لعالم الواقع المادي، ولكنه في هذا الانزياح يمارس فعل الإحالة على هذا العالم بوسائله الفنية الخاصة،...لنراه من جديد، أو لنراه في اختلافه). د.يمنى العيد - القول الشعري ص43

كثيرة هي الانزياحات في مسيرة محمد العلي، الحياتية والفكرية والإبداعية، فعلى صعيد المكان، كان فعل الانزياح بارزاً في الانتقال في المكان (الإحساء، النجف، الدمام، بيروت)، وعلى الصعيد الفكري نرى انزياحا من التقليدية السلفية الشيعية إلى الحداثة الفكرية المعاصرة، مثلما نقرؤه في انزياحه الشعري من المدرسة الكلاسيكية إلى فضاء شعرية الحداثة.

وهذه التنقلات لا يمكن أن تأتي نتيجة طفرة لحظية، بدلالة استمراريتها عبر الزمان والمكان، ولكنها تأتي، بكل تأكيد، نتاجاً لبنية نفسية وتكوينية ثقافية وفنية، قلقة وخلاقة، وعبر رؤية عقلانية نقدية مدججة بأسئلتها المعرفية العميقة عبر مسيرة محمد العلي.

شاعرنا يتميز - إلى جانب عدد من شعراء العربية المعاصرين - بكونه أكثر اشتغالاً على عدد من الحقول الكتابية المترابطة، في مجال الفكر والنقد الأدبي والإبداعي، وتنقلاً بين الأمكنة، وانزياحا من مسلمات فكرية وفنية إلى غيرها، عبر رحلة خصبة وقاسية امتدت خلال أكثر من نصف قرن، بما يهيئ لقصيدته موقعها البارز في مصاف شعرية التجربة الحداثية، الغنية برؤاها وخبرتها التجريبية المنحازة للجديد والمتجاوزة لنمطية التقليد والسائد معاً.

وبالرغم من أن هذه الانشغالات المتنوعة قد أغنت تجربته الشعرية بالوعي والرؤية العميقة والرهافة اللافتة في مكونات بنية نصه الذي يتسم بفرادة الرؤيا والتعبير، إلا أن تلك الاهتمامات المختلفة قد حدّت من إمكانية مراكمة تجربة شعرية مؤثرة في ساحتنا المحلية والعربية، نظراً لعدم عنايته بمواصلتها أو الاهتمام بنشرها في مجموعات شعرية.

ويعزو شاعرنا ذلك إلى أمرين:أولهما: أنه لم «يجيّل» نفسه، بحيث يغدو مهموماً بحضوره في المشهد الشعري، وثانيهما: يرده إلى كونه شاعراً انفعالياً، وما لم تكن تجربة القصيدة بركاناً يهز أعماقه، فإنه لا يذهب إلى كتابتها حتى لا تصبح مجرد حالة وصفية باردة، أو تأملاً محايداً دون بوصلة.

كسر الغنائية في نصه الشعري

قد يذهب النقد الحداثي إلى توصيفه بالشاعر الغنائي، نظراً لحضور ذات الشاعر في كليّة النص، باعتبارها بؤرة ومنبع انعكاس التجربة والواقع على تفاعلها الداخلي، كذات رومانسية، تنشد الحرية الفردية، وتتمرد على جميع الأنظمة والقوانين الاجتماعية، وتتولّع بالتغرّب والتغريب، والفرار إلى عوالم جديدة متخيلة، متدثرة بالكآبة والحزن.

وقارئ قصائد «العلي» سيقف حتماً أمام روحه المتشبثة بالحرية، وإعلاء قيمة الفرد، وإبداع صور شعرية متفردة، وسيرى غابة من الحزن الشفيف تطبع الكثير من نتاجه، ولكن هذه المكونات تنحلّ في بنية نصيّة كبرى، تخرج القصيدة من غنائيتها التقليدية أو نزوعها الرومانسي، إلى أفق مغاير ينبني على (امتزاج الخاص بالعام، والذاتي بالموضوعي، والفردي بالاجتماعي، والداخل بالخارج) (صالح الصالح - جدل الفكر المعاصر في المملكة العربية السعودية)، حيث يكون حزن الشاعر محملاً بالأشواق الدفينة والمؤرقة للجماعة الرانية للأفق الأجمل، وليس إلى الجماعة المكتفية بعطالتها، أو المكرّسة لسلطة قهرها وتخلفها.

وفي ذات السياق يمكن لنا أيضاً أن نقف أمام بروز غنائية الشاعر في موسيقاه، التي تحفل بإيقاع عالي النبرة، يثير في القارئ أو المتلقي رهبة في السماع، متصادياً مع ما يتسرّب في الشعر العربي من بنى شفوية الشعر وخطابيته القديمة، ولكن شاعرنا يكسر النبرة العالية الملازمة لخطابيتها، بإنتاج نص تنمو جمله الشعرية وفق مسار التوالي لا التجاور، والتنامي لا التشتيت، وبمقدرة لافتة على الاحتفاظ بحرارة تعبيره الوجداني، وتكثيف صوره الشعرية المفارقة للعادي والمألوف والتقريري والمباشر، وباغتناء حقولها الدلالية بوعي معرفي شديد الخصوبة، مستنداً في كل ذلك الصنيع على حساسية فنية ولغوية عالية الرهافة والإتقان نلمسها في كل جملة شعرية، بما يرتقي بتلك النبرة الخطابية والموسيقية العالية لكي تصبح أداة تأثير جمالي وتحريضي للقارئ ليمضي مع شاعرها في معايشة المتعة والكشف عن فضاءات التأمل والتأويل والتساؤل والحوارية داخل البنية الإيقاعية الشمولية للقصيدة.

محمد العلي ابنٌ للتراث العربي، وليس حفيداً له، أو باحثاً طارئاً على موائده، ويمكننا أن ننزع عنه كل الأساطير إلا ذلك التراث الذي نهل منه، وما زال يتبدى في جدل التراث والحداثة في كل كتاباته، وأنى لنا ذلك، فتلك بئره الأولى، بيد أنه دائما ً ما يكون نصاً خارج سلطة النص في شعره ودراساته ومواقفه، بما فيها « أبوة» النص التراثي ذاته.

محمد الهجري

من مظان شتاتها، في الصحف والمجلات، ومن أدراج النسيان أو الإهمال، ومن كتاب الدكتور شاكر النابلسي «نبت الصمت» الذي ضم جزءاً مهما منها، ومن كتاب الأستاذة عزيزة جاد الله «محمد العلي.. شاعراً ومفكراً» والذي حوى معظم ذلك الشتات..

من كل ذلك المتن المتناثر عنوةً أو إهمالاً، ومما أنتجه الشاعر بعده، قدّم لنا الأستاذان « محمد الشقاق، وحمزة الشقاق» المجموعات الشعرية الكاملة الأولى للأستاذ محمد العلي، في مجلد بعنوان «لا ماء في الماء»، والتي صدرت عن نادي المنطقة الشرقية الأدبي في عام 2009م.

بدأ شاعرنا كتابة قصائده في العراق حيث عُرف باسم «محمد الهجري»، نسبة إلى هجر، الإحساء.

والهجرة، كما تعني مغادرة المكان إلى سواه، فإنها تعني أيضا البيوت القليلة التي يقيمها ساكنوها كخيام من شعر الماعز أو الإبل لتسهيل عملية التنقل، فهل كان منذورا محمد العلي للترحال والهجرة منذ البدء؟

أميل إلى ذلك، وسأسمي مراحل تنقله وإبداعه بالهجرات الثلاث، ويمكن تقسيمها، حسب تواريخ إنتاج أشعاره، إلى: قصائد الهجرة الأولى من الإحساء إلى النجف في عام 1946م، وقصائد الهجرة الثانية من النجف إلى الدمام في عام 1964م، وقصائد المرحلة أو الهجرة الثالثة (رحلة الشتاء والصيف) ما بين الدمام وبيروت منذ عام 1988م وحتى اليوم.

قصائد الهجرة الأولى:

أنشأ أولى قصائده في النجف عام 1950م حين كان عمره ثمانية عشر عاماً، بمناسبة افتراق صديق دخل عش الزوجية فنسي أصحابه العزاب، فقال: «أترى سلى سلمى وخالف معهدا

صبٌ أتاح له الظباء يد الردى؟» (صالح الصالح - جدل الفكر المعاصر في المملكة)

وبدلاً من تهنئة الصديق بزفافه إلى الجنة الأرضية الموعودة، يصف الشاعر ذلك الزواج بأنه رمح يردي صاحبه!

وهنا سنلمح إحدى سمات شعرية العلي، وهي المفارقة الساخرة، وقد تجلت منذ البدء في بنية قصيدته أو تجربته البكر، وما زالت واحدة من أبرز ملامحه (كتابة وإبداعاً وحياة) حتى اليوم.

وبعد أن تجاوز مرحلة اللثغة الأولى، سينتقل ومنذ عام 1954م إلى امتلاك مقومات الشعرية الناضجة والمبكرة، التي ستحتفظ ببعض ملامح مرجعيات الشعرية الكلاسيكية من حيث المعجم اللغوي، والتشكيل الفني، والدلالة الترميزية، وارتباط انفعالها الشعري بمحرض المناسبة أو الحادثة الشخصية والثقافية والسياسية والدينية، ومن أبرز قصائدها (خطيب الجراح، غارة الفجر، فرح الموت، حاشاك).

بيد أن تلك القصائد لا تبقى أسيرة لمناخ الكلاسيكية الشعرية المحافظة، بل ستنزع إلى أفق الابتكار والمغايرة، منحازةً إلى تجربة أبرز شعراء التراث العربي الذين أعتبرهم أدونيس في كتابه «الشعرية العربية» آباءً للحداثة الشعرية في تراثنا، من أمثال مسلم بن الوليد، و»أبو تمام»، و»أبو نواس»، وبشار أبن برد، والمعري، بل إنها ستذهب إلى أبعد من ذلك من حيث الرؤية وابتكار التشكيل، مستجيبة لثقافة عصرية ومعرفية جديدة تنبني على مكونات التساؤل والشك والنقض، فتنزاح بؤرة دلالة النص من سكونية التعبير الوصفي والمحاكاة الوجدانية للحادثة أو المناسبة، إلى أفق حركية الرؤيا والانفعال والتطلع إلى أفق أكثر جمالاً وحريةً، معبرةً بشكل موارب عما كان يمور في أعماق الشاعر من تحولات ومراجعات وتطلعات فكرية وإنسانية جديدة!

ونشير هنا، وباقتضاب، إلى أبيات قليلة تدل على ما حفلت به تلك التجربة من رؤية متخطية، فتحت تشكيلها الفني على فضاء أكثر إبداعاً ورؤية أكثر تحرراً، حيث يقول في قصيدة «غارة الفجر» التي كتبها في العيد الألفي للفيلسوف العربي «الكندي» عام 1962م:

ذكراك سوطٌ من الآلام يخبرنا

أن الطريق الذي اخترناه مسدودُ

فهنا نقف على رؤية نقدية جارحة بصياغة تقريرية، ولكنها تغدو محرضاً جمالياً يمنح الصورة الشعرية ابتكارها وتألقها الدلالي في البيت التالي:

وأننا قد صبغنا الليل فانتفضت

إلى نزال الضحى ألوانهُ السودُ

والأمثلة كثيرة على جدل ذلك التوهج الفني والدلالي في قصائد العلي في تلك المرحلة، وقد تناول جوانب مهمة منها في قراءات معمقة بعض النقاد، وتم تضمينها في كتاب الأستاذة عزيزة فتح الله (محمد العلي - دراسات وشهادات).

الدمام
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة