لم يكن له طيب مقام في ذلك الزمن الجميل، بل يأتي آخر الليل مختلسا غفوة القمر آخر الشهر يتلصص على همهمات تلتحف وجد الفراق بعد أن أتعبها السهر ويمضي سريعا قبل أن يطل الفجر ليعود من جديد بدء يوم كان قد بدأه بما ختمه يؤلب هذا ويهبط عزم ذاك، يزين ما عجز الشيطان عنه لابسا ثوب النصح والإرشاد.. ولأن ذلك الزمان يطغى عليه تهذيب الأخلاق وغيبية المآل كان الجميع يلقي عليه السلام.. فجمع التفاهة والمهابة وأبان الفضائل على الجوارح, يطيل من هنا ويحف من هناك, يثير الأرض غدوا ورواحا, يسابق الناس في الخيرات ظاهرا..
كانت تحميه أسوار عالية من التهذيب الجمعي فلا ينتظر أن يناله قدح أو ذكر بسوء, جعل فيهم رقيبا صارما يعرف أنهم أطاعوه (ذكرك أخاك بما يكره) فبات له في النهار عيش مقدس وبالليل نأي مستأنس..
كان بسيطا وطارئا في ظل زحمة القيم والمبادئ والعناوين الكبيرة، ولكن الزمن حين طال المسير وسار بهم نحو الأطراف أشكل على القوم مضافا كثيرا إلى مخزونهم المصان فاختلط الكثير بالقليل فغلبه، فكانت أولى بطولات ذلك المتلصص أن بدأ فعانق ليل منتصف الشهر ليعلن بدء ميلاد الطارئ على الحياة..
وما إن أبصروا الضوء بعد العتمة حتى انضم إليه خلق كثير فعانقوه ومجدوه وسطروا فيه القصائد والقصص تعظيما لشأنه وصار المتلصص رمزا من رموز التغيير لا بل التطوير فسن وشرعن وأبان وأوضح واستطرد واستدرك وكل ما جاء في البيان حتى بات مرجعا يعتد به وزمانا أوقف عند بابه ينتظر الإذن بالمرور..
بتنا بعد مروره المهاب نعيش في مفرداته نأخذ منه القول نرده في النهار ونجالسه في الليل فلا الممانع نجح ولا السائر معه ربح ولما صرنا على هذه الحال سرنا إلى ما فوق الأطراف لنبحث عن هوية جديدة علها تعيد إلينا ما سلبه المتلصص منا فأضافوا علينا أوزارا مع أوزارنا، وعدنا منهم نجر خطيئة متعددة الجنسيات ومع التيه نبحث في التوافه كلها لا نبقي ولا نذر نجرم هذا ونفارق ذلك إلى ذلك، وتشعبنا فصار هذا يدعونا إلى مزج الخطيئة كلها بالبناء وذلك إلى خليط من مشهيات قليلة مع مبادئ كانت أدخلت في غرف التجميل، وآخر يدعو إلى إعادة هيكلة الخطايا.. فلم تعد الوجوه تلك التي نعرفها.. ولم يعد القوم كأنهم مروا من هنا، احترنا من فرط إبداعهم على التشكل.. وإذا بنا نسمع يحيى السماوي يوم جلس بعيدا عن ضفاف دجلة مهموما منكسرا يردد:
تبدلت النفوس وعفرتها
مطامعها فغيرت الخصالا
ولونت الوجوه فلست أدري
أمعتصما تحدث أم رغالا !!
تعولمت الضلالة في زمان
يسير به الأبالسة احتيالا
لعنت أبا رغال كم حفيد
تركت بنا يماهيك ابتذالا
ترى ما بال يحيى خرج من السياق فلم يعد حتى مقامه هناك معهم يبعث على الاطمئنان ؟
يا أيها التافه.. سترحل يوما من حينا من فضائنا من كل شبر سارت عليه قدم تشققت من عناء البحث عن الزاد.. رغم ما أحدثت بنا من جراح، ورغم ما سلبت منا من قيم أصيلة.. ستعود إلى ليلك الأول متلصصا ولكن هذه المرة وحيدا دون هدف وبلا قوم.