إهداء من الكاتب إلى: عمي العزيز معالي الشيخ محمد الحمد العيسى عميد وحكيم عائلة (آل عيسى) من بني زيد من شقراء حفظه الله.
تقديم: تنسب إلى الفوهرر أدولف هتلر مقولة وجدتها مناسبة لتقديم هذه الدراسة «الناس لا تصدق الكذبة الصغيرة، بل تفضل الكذبة الكبيرة»!!
وفي السطور التالية سنفكك بحول الله وتوفيقه واحدة من أكبر الكذبات في التاريخ الإسلامي المعاصر بل لعلها أكبرها على الإطلاق، ونقصد تحديداً دوافع الإمام آية الله الخميني -رحمه الله- لإصدار فتواه الشهيرة ضد رواية «آيات شيطانية» الملعونة للروائي الهندي-البريطاني المأفون سلمان رشدي. وتعتمد هذه الدراسة على كتاب «الرقابة في المجتمعات الإسلامية» Censorship in Islamic societies الصادر بالإنجليزية عن « دار الساقي» في بيروت عام 2002 للمؤلف البريطاني تريفور موستين (216 صفحة، حجم وسط).
ونظرا لمكانة الإمام آية الله الخميني -رحمه الله- التاريخية وكذلك أهميته عند عشرات ملايين الشيعة في العالم، قمنا بشراء وقراءة أهم مرجع اعتمد عليه موستين من ضمن أكثر من 20 مرجعا اعتمد عليها في مناقشة وتحليل موضوع تلك الرواية الملعونة في كتابه. ونقصد تحديدا كتاب المؤرخ الإيراني «باقر معين» الذي كتب السيرة الذاتية الموثقة بالإنجليزية للخميني (التي يمكن وصفها «بشبه رسمية») والتي صدرت باللغة الإنجليزية بعنوان «خميني: حياة آية الله»، Khomeini: Life of The Ayatollah.
وقد حصلنا على الطبعة الفاخرة من كتاب باقر معين ، (غلاف صلب «هارد كوفر»، دار «توماس دن»، 368 صفحة حجم وسط) وقمنا بمراجعة وتدقيق «بعض» استشهادات واقتباسات موستين ومطابقتها مع كتاب باقر معين حتى نتأكد من صحة كلام موستين الذي وجدنا كلامه ونقله دقيقا بدرجة ممتازة وللأسف ينسف خرافة الدافع الديني لتلك الفتوى الشهيرة.
ولأن الحقيقة لدينا أهم من أي اعتبار آخر، نرصد ونحلل ونترجم ثم نلخص ونكتب أهم ما وجدناه في كتابي موستين ومعين ونخلص في النهاية إلى النتيجة المؤلمة بعد سرد المقدمات. والله وحده أعلم بما في النفوس، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
تعريف بالمؤلف تريفور موستين:
صحفي ومؤلف بريطاني ومستشار إعلامي متخصص في شؤون العالم العربي وإيران والهند. سافر إلى الهند لأول مرة عام 1965 وعاد منها عبر أفغانستان وإيران والعراق مكتسبا خبرات عديدة ومسجلا ملاحظات كثيرة. كتب لمجلة نيوستيتمان وهيرالد تربيون والفاينانشيال تايمز ومن ثم أصبح مدير النشر لمنطقة الشرق الأوسط لدار ماكميلان البريطانية العريقة والضخمة. كما واصل الكتابة لمجلة (بروسبكت) المرموقة وملحق تايمز الأدبي الشهير TLS. وعمل محاضرا في «معهد رويترز للصحافة» التابع لقسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة أوكسفورد. كما قدم برنامج على التلفزيون بعنوان «الشرق الأوسط اليوم». وأصدر عدة كتب هامة عن الشرق الأوسط. يعمل حاليا محررا في مجلة «ميد»MEED المرموقة والمتخصصة في اقتصاديات الشرق الأوسط.
عوامل سياسية داخلية وخارجية
بحسب موستين: هناك العديد من العوامل والضغوط السياسية الداخلية والخارجية التي دفعت الإمام آية الله الخميني -رحمه الله- لإصدار فتواه الشهيرة ضد رواية «آيات شيطانية». وسنحاول هنا تلخيص أهم هذه الضغوط مع دعوة ورجاء للقراء الكرام لملاحظة وتأمل «تواريخ» بعض هذه الأحداث خاصة «الخارجية» نظرا لأهميتها الفائقة.
تاريخ صدور الرواية
صدرت الطبعة الأولى من رواية «آيات شيطانية» في بريطانيا في 16 سبتمبر 1988 عن دار «فايكنغ برس» في 547 صفحة في «طبعة فاخرة» ذات غلاف صلب (هارد كوفر).
أول تعليق للخميني على الرواية
بحسب موستين (ص 134) نقلا عن باقر معين: في بداية فبراير 1989، قدم أحد مستشاري الخميني ملخصا «بالفارسية» للرواية للخميني، وقرأ الخميني الملخص ثم علق عليه باستخفاف أمام بعض مريديه ونشر تعليق الخميني في الصحافة الإيرانية في 2 فبراير 1989 وجاء فيه حرفيا (موستين، ص 134): «العالم كان دائما مليئا بالمجانين الذين يقولون مثل هذا الهراء، هذه الرواية لا تستحق حتى مجرد الرد عليها»، وطبعا لم يكن أحد سيعلم عن هذا التعليق الهام للخميني وفي مقدمتهم كاتب هذه الدراسة لولا حصافة وبحث موستين!!!
لماذا تغير رأي الخميني؟
الضغوط السياسية الداخلية والخارجية العنيفة المتتالية والمستمرة منذ نجاح الثورة نتج عنها تدهور شعبية الإمام آية الله الخميني -رحمه الله- وبالتالي بحثه عن أي طريقة لاستعادة شعبيته داخليا وخارجيا. وسنقوم بسرد هذه العوامل والضغوط بالتفصيل لاحقا.
ضغوط داخلية متراكمة تمهد للفتوى
وضغوط خارجية عنيفة تحسم تماما توقيت صدور الفتوى
سببت العوامل السياسية «الداخلية» ضغوطا عصبية هائلة على نفسية الإمام آية الله الخميني -رحمه الله- بسبب كثرة النقد الموجه ضده داخليا وبالتالي فقدان وتدهور شعبيته في الغالب بسبب تدهور وضع «حقوق الإنسان» مما أدى إلى استياء المثقفين وهجرة جيل كامل منهم تقريبا كما سيرد، وكذلك تمرد بعض كبار رجالات الثورة عليه. الضغوط الداخلية تكتلت بصورة تراكمية خانقة بحيث أدت في النهاية لتهيئة البيئة المناسبة في نفسية وفكر الإمام آية الله الخميني -رحمه الله- لصدور الفتوى ولكن الضغوط الخارجية كانت حاسمة وحددت تاريخ صدور الفتوى بالضبط (باليوم تقريبا) كما سيرد لاحقا.
وبخصوص الضغوط الداخلية، فقد كانت تتلخص في نقد عنيف للنظام من شخصيات مقربة منه وتركزت معظم بل ربما جميع الانتقادات حول تدهور وضع «حقوق الإنسان» بصورة مرعبة، ولم تؤد الضغوط الداخلية بصورة «مباشرة» إلى تحديد تاريخ صدور الفتوى الشهيرة بالضبط ولكنها تراكمت بقوة حتى أوجدت المناخ النفسي الملائم للفتوى في تفكير الخميني لتصدر تلك الفتوى بسبب عوامل سياسية خارجية كما سيرد لاحقا.
الضغوط الداخلية
دعونا نبدأ بالعوامل الداخلية التي سنسردها بسرعة مخلة نظرا لكثرتها. ويمكن اعتبار هذه العوامل الداخلية بمثابة «المقدمات التي تؤدي للنتائج» كما يقول الفلاسفة. وقد لا يكون هناك روابط «مباشرة واضحة» بينها وبين صدور الفتوى، ولكنها كما أسلفنا مهدت وسهلت الطريق لصدورها حتى حددت وحسمت الضغوط الخارجية توقيت صدورها بالضبط. وسنبدأ بسرد سريع للضغوط الداخلية العنيفة المتراكمة ثم ننتقل للضغوط الخارجية الحاسمة:
تمرد المهندس د. مهدي بازركان
تسبب انقلاب بعض أبناء الثورة عليها ونقدهم لنظام الخميني والثورة بصدمة نفسية كبرى للخميني ويأتي في مقدمة هؤلاء المنقلبين المتمردين المهندس الدكتور مهدي بازركان -رحمه الله- أول رئيس لوزراء إيران بعد الثورة والذي اختاره الخميني بنفسه لرئاسة الوزراء ومنحه ذلك الاختيار الشرفي «درعا واقيا» و»حصانة سرمدية» ضد أية اتهامات كيدية مرسلة لاحقا من فئة التهم المعلبة «مناهضة الخميني» أو «مناهضة الثورة الإسلامية»، إلخ.
وكان بازركان قد استقال من رئاسة الوزراء بشجاعة احتجاجا على اقتحام السفارة الأمريكية في طهران من قبل طلاب ثوريين إيرانيين واحتجاز موظفيها كرهائن ومساندة الخميني (المؤسفة لبازركان) لذلك الاقتحام والاحتجاز مما أدى بحسب بازركان إلى: «تشويه سمعة إيران إلى الأبد ووصمها بالدولة التي لا تحترم ولا تعترف بالقانون بطريقة أكسبتها سمعة سيئة لا يمكن وصفها بالكلمات وبصورة لا يمكن إصلاحها مطلقا في المستقبل»!!!
وبعد استقالته، واصل بازركان نشاطه السياسي بقوة داخل إيران ليقود الحركة الوطنية الديمقراطية، وكان سر قوة ونفوذ بازركان الطاغي وقدرته على توجيه النقد اللاذع للنظام ينبع من كون الخميني اختاره بنفسه لرئاسة الوزراء، وتم ذلك الاختيار لكون بازركان في الأصل مهندسا ميكانيكيا مرموقا حيث كان أول رئيس «إيراني» لقسم الهندسة في جامعة طهران ولكونه قياديا تكنوقراطياً لامعاً لأنه أول شخص «إيراني» ترأس «شركة النفط الإيرانية» بعد تأميمها على يد رئيس الوزراء الدكتور محمد مصدق رحمه الله.
وفي نفس الوقت كان بازركان يعتبر أيضا بحق «مفكرا إسلاميا» مرموقا، ومواطنا إيرانيا متدينا وزاهدا ونظيف السمعة ولا يمكن وصفه مطلقا بعلماني أو ملحد أو فاسد مالي، ولا يمكن أبدا المزايدة على حبه لوطنه إيران ولدينه الإسلام. وكان حلمه الأكبر الذي سعى له طوال حياته وناضل من أجله حتى وفاته هو تحقيق «حكم القانون» و»حماية حقوق الإنسان» في الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
ويلخص موستين في صفحة 24 (نقلا عن باقر معين) مأساة المفكر د. مهدي بازركان قائلا حرفيا: «ناضل أول رئيس وزراء لإيران بعد الثورة مهدي بازركان بقوة لترسيخ دور القانون في إيران، ولكن خميني كان لديه أجندة أخرى»!!!
ظاهرة هجرة جيل كامل من المثقفين الإيرانيين
وبعد تردي وضع حقوق الإنسان بدرجة مرعبة برزت ظاهرة هجرة جيل كامل من المثقفين تقريبا (أساتذة جامعات، وفنانين، وكتاب) إلى المنفى في الغرب خوفا من الاتهام ب»معاداة الثورة/الخميني/الإسلام»، تجرأ بازركان كمثقف بارز وكمفكر عضوي تهمه مصلحة وطنه ودينه وكتب رسالة تاريخية مفتوحة إلى رئيس البرلمان وقتها حجة الإسلام هاشمي رفسنجاني نقد فيها النظام الثوري مباشرة وبعنف ونقد الإمام الخميني بصورة مبطنة غير مباشرة وطالب بازركان البرلمان في رسالته بجرأة غير مسبوقة مطلقا «بحماية حقوق الإنسان، وتحقيق حكم القانون، وتغيير اسم «الجمهورية الإسلامية الإيرانية» إلى «الجمهورية الديمقراطية الإسلامية»» لتحقيق الحكم الدستوري بالقانون. وبسبب هذا التصريح القوي والجريء الذي أصاب الثورة في مقتل من رجل لا يمكن اتهامه بمعاداة الثورة أو الخميني أو الإسلام أو الشعب الإيراني كما أسلفنا بأي صورة وتحت أي تأويل، تم التضييق على مهدي بازركان سياسيا ومنع عدة مرات لاحقا من حقه المشروع للترشح لانتخابات رئاسة الجمهورية حتى وفاته عام 1995، بل واضطر بازركان - في فترة ما - للهجرة إلى سويسرا خوفا على حياته من الرعاع والغوغاء.
وبعد منعه من حقه في الترشح لانتخابات رئاسة الجمهورية لاحقا، قال بازركان: «إن أعظم تهديد للمسلمين في إيران منذ الثورة كان ولا يزال تجربة العيش تحت حكم الجمهورية الإسلامية»!!!
تمرد الرئيس بني صدر
ويؤكد موستين: ولكن أبرز ضحية سياسية للخميني كان بحق أول رئيس للجمهورية الإسلامية السيد أبو الحسن بني صدر، وهو صاحب تاريخ وسجل نضالي ناصع ضد الشاه. ولكن لسوء حظه، أشار بني صدر بحسن نية في حوار صحفي عابر وسريع بأن من أهدافه كرئيس للجمهورية تحقيق «حكم القانون» وفُسر هذا من بعض رجال الدين المتربصين به بأنه يخطط لعزل الخميني الذي كان البعض يعتقد أنه يحكم بتفويض إلهي بسبب فكرة «ولاية الفقيه». ولذلك في اليوم التالي بعد نشر تصريحه عزله الخميني من رئاسة إيران، ثم أصدر رجل دين مغمور فتوى تهدر دم رئيس الجمهورية (بني صدر) بدعوى معاداة الإسلام والثورة (أي الخميني)، ليسدد بعدها بني صدر أكبر طعنة وإهانة للخميني خاصة وللثورة الإيرانية عامة عندما اختفى داخل إيران لمدة ستة أسابيع بعد فتوى هدر دمه ثم ساعده أنصاره على الهرب بحيلة متقنة إلى فرنسا بعدما حلق شاربه خوفا على حياته، حيث ارتدى الزي الرسمي للقوات الجوية الإيرانية وركب على متن طائرة عسكرية بوينج 707 يقودها طيّار عسكري من مؤيديه اسمه العقيد بهزاد موعضي الذي طار به وأوصله إلى فرنسا بسلام. ولا يزال الرئيس بني صدر حتى اللحظة يعيش في باريس تحت حراسة أمنية مشددة لحمايته من الاغتيال.
وسبب هرب بني صدر حرجا وجرحا عميقا وعظيما للخميني ونظامه ونتج عنه ضغط نفسي هائل على الإمام آية الله الخميني -رحمه الله- لكون هروب رئيس الجمهورية يعني عمليا «فشل» الثورة ونظام الخميني (ولاية الفقيه) وخاصة لكون الخميني هو الذي اختاره بنفسه لرئاسة الجمهورية.
(يتبع)
hamad.alissa@gmail.com
جدة