يكثر الجدل خلال طرح قضية العولمة والحداثة في الفنون في أي مجلس يضم نخبة من الفنانين الذين يهمهم هذا الأمر ويبحثون عن مخرج وبوابة ليرون من فضاء هذا الواقع الجديد وما سيؤول إليه واقعنا التشكيلي المحلي (العربي عامة والخليجي على وجه الخصوص) من بين ما يحدث في ذلك الواقع المتحرك غير المستقر وغير المرضي عنه في كل محيط أو مجتمع فأصبح مثار حوارات ونقاشات وبحث عن حلول.
وقد يكون اختلافات الرأي حول هذا لواقع نتيجة سوء فهم من أحد الطرفين أو تطرف نحو جانب يجعل المتطرف يحارب ويدافع عنه بشكل قد يخلق الضبابية وهذا هو ديدننا خلال الحوارات المفتوحة، فإن لم تقبل برأيي أو لا تكون معه فأنت ضدي.
ومصدر الاختلاف يقع بين معنى العالمية والعولمة والحداثة والتغيير والسيطرة وكلها مسببات للزوابع عند عدم الإلمام بمفهوم كل منها وفهم ما يقصد منه، فالعالمية هي الوصول إلى الآخر والعولمة تعميم الثقافات المتعددة الأغراض والمهام وتعميم مفهوم الحياة كما يرغب مبتدعها أو القابض على مفاتيح توجيهها وهذا هو مربط الفرس، أما الحداثة وهي جزء من العولمة فهي التغيير والتبدل نحو الجديد مع ما يمكن أن يؤول إليه هذا التغير من نتائج في حال عدم انضباط سبل التغيير والانجراف إلى الحداثة دون وعي، وهذا ما يمكن اعتباره حجر الزاوية أو الحلقة الهام في كيفية التعامل مع الجديد دون تأثير على الأصول أو الهوية أو الإرث الخاص الذي يمثله الإنسان وتاريخه ومكتسباته وجذوره.
العولمة ريح تحرك موجة التغيير
يذكر أن العولمة بمفهومها العام والمطلق تعود إلى القرن الخامس عشر الميلادي وما تبعه من فترات زمنية، ابتداء من عصر النهضة في أوروبا مرورا بالثورة الصناعية التي أدت إلى نشأة الطبقة البرجوازية وتطور النظام الرأسمالي ثم حركتي الاكتشافات والاستعمار للعالمين القديم والجديد على حد سواء، بهدف توفير كل ما يتعلق بالحياة اليومية وبناء الحضارة. وقد بحث الكثير في هذا المضمار الذي يأتي العطاء الإنساني أهم أهدافه، سياسيا واجتماعيا، وبما أننا لسنا بصدد ما كان للعولمة من تأثير في الحياة العامة وأن ما نقصده يخص الفنون وما أصابها من هذه الموجة من تأثير وتغيير وتبدل في الفكر وأسلوب التنفيذ (التقنيات) ما يجعلنا نغض الطرف أو نقف بعيدا عما تسببت فيه العولمة على الصعيد الأيديولوجي والسياسي.
العولمة في الفنون
المتابع والقريب من الفنون الحديثة إن كان متذوقا أو محبا لها أو من الممارسين من الفنانين الرواد أصحاب الخبرات الكبار سنا وتجارب هم من يلحظ تأثير موجة العولمة على هذا الإبداع الذي عرف عنه ملامسته المباشرة للحياة عبر ما انتشر من لوحات منذ أن عرف الإنسان كيف يعبر عن مشاعره وينقل الواقع على سطح جدار الكهف وصولا إلى اكتشافه الألوان والفرشاة وقماش الرسم امتدادا إلى عالم الصورة والطباعة إلى آخر المنظومة والى آخرما تحقق من سبل التقنيات في تشكيل العمل الفني عبر مخترعات تكنولوجية أصبح ما تنتجه أكثر رواجا مما كان ينتجه الإنسان بيده.
إشارتنا السابقة لا تعني موقفا أو رأيا مخالفا لما يعنيه تطور الفنون تبعا لتطور وعي الإنسان وعيشه في محيط لم يعد فيه للوحة التقليدية التي كانت سببا في إعجابه بفناني عصر النهضة من رسامين ونحاتين وبقاء لوحة الموناليزا مقياسا للدقة والقدرة على نقل الشكل والتعبير عن المشاعر أو ما كان يراه الكثير في تمثال المفكر لرودان إلى آخر ما أبدعه الفنانين في ذلك الزمن، فلكل زمان دولة ورجال ولكل حقبة زمنية أجيالها وعقولها وسبل الإبداع فيها عودا إلى ما وصلت إليه شعوبها من تطور علمي وتقني شمل الفنون وأدواتها فلم يعد لحامل اللوحة مكان ولم يعد يحتاج الفنان إلى مرسم بمساحة تزيد عن الأربعة أمتار مربعة تحتوي جهاز الكمبيوتر وملحقاته يمكن الفنان من إنتاج إبداعه وبثه إلى العالم دون حاجة لمعرض أو قاعة عرض، هذا الواقع وما تبعه من تحرك وتنقل واتباع للجديد تجاوزت مراحله إلى ما هو أبعد من العمل الفني الذي يجمل به مكتب أو منزل أو قاعات اجتماعات ليصل الأمر إلى أن يكتفي الفنان من إبقاء المشهد في ذاكرة المشاهد ويلغي ما تم تشكيله بمعنى أن العمل الفني اليوم وبما جنته عليه العولمة لا يتجاوز الذاكرة إلى أرض الواقع كما هي المسرحية، نشاهدها عالما كبير تنقلنا بأحداثها وحركات وإيماءات ممثليها إلى أعماق العقل الواعي والباطني ثم تغلق الستارة وتضاء دروب الخروج من القاعة ويصبح المشاهد بعدها في الشارع إلا من صور ذهنية ترسبت في دخله يستعيدها متى شاء.
تغيير الاتجاه نحو المنافسة
هذا التوجه وتلك الموجة لن يتمكن من تبناها السيطرة عليها وعلى ما جنوه منها من ضياع للكثير من القيم الفنية والفكرية فأصبحت كالسحر الذي انقلب على الساحر حينما سعى أولئك المبتدعون للعولمة وتعميم الثقافة وطمس هوية وخصوصية الشعوب وتصدير ثقافة التغريب إليها، وسيأتي زمن تصحو فيه تلك الشعوب المنخدعة وتتنبه إلى الأهداف الخطيرة من تلك العولمة لتقوم بتغيير اتجاه البوصلة لتبدأ ببث ثقافتها الأصيلة القوية ذات الجذور المنغمسة في وجدان شعوبها لتنثرها وتنشرها إلى العالم في مواجهة ما كان الغرب يهدف إليه، ومن أجل تقريب الحقيقة فإن الهدف من تلك الموجة لم يكن إلا الثقافة الإسلامية بعمومها التي تحتضن ثقافات شعوب عربية لها جذورها وقيمها ومبادئها التي أنتجت سمات وصفات لفنونها فكيف بها لو أخذت حقها من القوة والقدرة على المواجهة وقلب الموازين والاتجاه المعاكس وأصبحت فنوننا العربية بما يؤسس ويعد لها من سبل التطوير والتحديث مع إبقاء خصوصيتها ما يمكنها من اكتساح الثقافات الأخرى غير الممتلكة للجذور والقاعدة المتينة.
هذا الأمر أو التحرك يحتاج لوعي تام بما يمكن القيام به والإعداد له عبر تحديد الأسلوب أو المنهج في مضمون العمل الفني وتقنياته ليتلاءم مع متطلبات الساحة المعاصرة التي أخذ نفوذها في الانتشار والاتساع لأسباب من أهمها سهولة التعامل مع وسائطها وعدم حاجتها لقدرات تقنية فائقة أو إمكانات فردية خارقة، بقدر ما تتركز على الفكرة والبعد الثقافي واستخلاص الملامح وتحويلها إلى رمز وإشارة تحرك الذهن وتعيده للبحث في المعنى أكثر من الشكل استنادا على ما يذهب إليه الفنان في إبداعه من فلسفة بصرية تجمع بين الصورة التي يشكلها التكوين العام للعمل بأي خامة وبمرجعية المتلقي الثقافية التي يستحضر مفاهيمها مما يحمل ذلك الشكل من عناصر استُلهمت من موروث وتاريخ وقيم الفنان الممثلة لمحيطة الثابت والمتحرك الإنسان والبيئة.
وكلما استطاع الفنان العربي أن يستجمع أطراف مكوناته الثقافية ليبرز من خلالها الهوية، بكل ما تتضمنه وتحويه من فهم في توظيف القيم والأخلاق فكرا وأدبا وفنا فسيتمكن من تحديد مصداقية خصوصيته النابعة من ثقافته من جانب، ومن جانب آخر إمكانية التفاعل مع غيرها من الثقافات بشكل إيجابي يتوافق مع خط سيره ومنهجه على الساحة الإنسانية لا أن يكون تابعا، منطلقا نحو منافسة الآخر على الصعيدين المحلي والإقليمي.
لقد اكتسحت العولمة الثقافية الواقع والمشهد العام واقتربت من السوق بما تحمله من تداعيات بتكريسها سبل الانتشار في الفنون وفي مقدمتها الفنون المرئية والمسموعة المعتمدة على الصورة والصوت التي تشكل السبيل الأسرع للوصول إلى الجماهير للكسب المادي على حساب الذائقة والهوية والإرث الإبداعي.
بهذا أحدثت تقسيما في المجتمع بين النخبوية التي ولدت ونشأت مع ولادة الفن الحديث ومدارسه الفنية التي تحمل الفكر والجمال المعقدين وبين العامة أو ما يمكن أن تسمى بالشعبية التي لا تتعاطى إلا الأشكال التقليدية البسيطة دون إيجاد حلول أو قواسم مشتركة بينهما.
monif@hotmail.com