الجزيرة «الثقافية» - سعيد الدحية الزهراني
لم أتوقع أن تأتي ردة الفعل بحجم ما استقبلت خلال الأسبوع المنصرم.. ومع جزيل تقديري لمن أشاد ومن وضح رؤى مخالفة لما جاء عليه الطرح.. كنت أتمنى أن تأتي رسائل المخالفين أو المعارضين ممهورة بأسمائهم وصفاتهم لكي نتمكن من نشرها بمنتهى ما تقتضي مهنية وآداب الطرح..
على أي حال.. هنا امتداد لما تم نشره الأسبوع الفائت بعنوان «ثقافة الرقص.. من أخرس لغة الروح والجسد» بصوت شبابي واع مستنير.. موقناً أن أجيالاً سبقتهم كانت وفق ما يُروى - رغم وعثاء الحياة - أكثر سعادة وفرحاً وإحساساً بالحياة.. منهم اليوم.. ومرة أخرى رغم جلّ معطيات الرفاهية المادية.. إلا أن هذا الجيل وجيلاً أو جيلين سبقت.. جاءت خالية من أسمى أشكال اللغات.. لغة الروح والجسد معاً...الرقص..!!
لن أطيل.. إليكم هذه الامتدادات..
(في الرقص.. تتبدى حضارات ويحضر إرث)
القاص الأستاذ علي زعلة.. يقول:
يقال: إن الرقص لغة للجسد، وهذا القول وإن سوغه الظاهر الفيزيائي بطبيعة الحال، إلا أن الرقص في الأساس إنما هو لغة للروح عبر إمكانات الجسد الكامنة والمغيبة، مغيبة بفعل ثقافي ومجتمعي مغلق.
تتفلّت إمكانات الجسد، معبرة عن مغيبات الروح، عن مكنونات الروح، في مقام تواصلي شفاف، ينبعث من نقاط بعيدة داخل الذات المتفلتة من قيودها، في حالة تجاذب وتواؤم بين الشعور الواعي واللاواعي، لتشكل خطاباً سحرياً ينفذ إلى أعماق النظّارة، الذين تتسع أحداقهم، وتتدلى شفاههم، في استجابة دهشة لا إرادية، لتبدأ الكوامن في التفاعل والتواصل، ليثير الرقص الماثل رقصاً كامناً في أعماق الجمهور، رقصاً حميمياً شفافاً، لا يعير انتباهه لأحد، لا يأبه بشيء غير تلك الحركات التي يتأملها في خشوع وكشف ساحرين.
في الحركات المتثنية للراقص، تتبدى الحضارة، ويحضر الإرث، وتختزل الموروثات، حين تصطك الأكتاف مترادفة، وتعلو ضربات الأكف والأرجل في إيقاع يتناغم دونما إعداد مسبق، فقط تسيره إيماءات الروح وبواعث النشوة الراقصة الراعشة، الرقص ممارسة فطرية، تنزع إليها الطفولة، وتتعاطاها فورة الشباب، وآهات الشيوخ نساء ورجالاً، رغم كل الحيثيات التي تحاول وأدها أو قمعها بذرائع شتّى.
حقاً، ما الذي غيّب هذه التعابير الفنية الراقية، من ألصق بها ظلالاً قاتمة ليست لها، من أفسد روحانية الرقص، وتجليات الأرواح المدلوقة في انثناءات راقص يحمل ذاكرة أمة وتاريخ شعب وحضارة مجتمع؟
(الرقص.. وطلاسم الجسد)
أما القاصة الأستاذة شيمة الشمري فتقول:
في تراثنا الكثير من الفنون الشعبية والرقصات المتنوعة التي تمارس بمرح وسعادة، سواء في الوطن العربي، أو في بلادنا الغالية، ولكل منطقة نكهة خاصة في ممارسة فن الرقص ولمدينتي -حائل- ارتباط وثيق بالرقص والغناء فنجد (السامري) و(العرضة) عند الرجال وللنساء نصيب من غناء ورقص (السامري) كما لهن حظ وافر من رقصات نسائية متنوعة تختلف وتتشابه مع رقصات النساء في مختلف المناطق، ولو نلحظ الراقصين... ابتسامتهم دائمة عند أدائهم رقصتهم، هي طاقات متوهجة، تعبير جسدي عن حالة فرح، أو علاج ليس مرّ لحالات إعياء وتعب وكبت! وكما نعرف الرقص يختلف من منطقة لمنطقة ومن بلد لبلد ومن مناسبة لأخرى، وقد ترافق الرقص الطبول والزغاريد والتصفيق والموسيقى بحسب طبيعة المناسبة ورغبة الأشخاص المعنيين. هو تنفيس بحركات جسدية تتناسب مع الإيقاعات، ورياضة تجيد نحت تفاصيل الجسد وشدّها، دون شعور بالملل من ممارسة هذه الرياضة، وقد اقترحت أخصائية التغذية « مونيك باسيلا زغرور» مقدمة برنامج «صحي وسريع» ناصحة كل سيدة تعاني من ضيق الوقت وعدم قدرتها على ممارسة الرياضة بتخصيص 20 دقيقة يومياً لممارسة الرقص، وأوضحت مونيك أن 20 دقيقة من الرقص السريع مجهود جيد يعادل تقريباً ممارسة الرياضة، مؤكدة أن فوائد الرقص لا تقتصر على الرشاقة فقط بل تتعداه إلى التأثير إيجابياً على الصحة بشكل عام، وعلى صحة القلب والعظام بشكل خاص، كما برهنت الدراسات العلمية أن الرقص له نفس مفعول الرياضة في صفاء الذهن، ومنح ممارسيه فرصة أفضل في التفكير بشكل إيجابي وسليم. في الرقص الجسد هو المعبر والمتحدث، وعلينا قراءة تلك التعابير وفك طلاسمها. وكما ذكر في بداية هذا التحقيق رقص الأطفال الصغار ودلالته، نلحظ أنهم لا يرقصون عند البكاء والحزن! بل عند سماعهم ما يفرحهم ويطربهم، مثلاً: عند تدليل الأم لصغيرها بالتصفيق نجده يبدأ بالرقص والمرح، الرقص يصاحب الفرح والأعياد والمناسبات السعيدة، ومن العجيب أن يتحول هذا التقليد القديم الجميل إلى عيب يمارس في الخفاء، تلغى التقاليد الجميلة بحجة العيب، في حين تبرز إلى سطح حياتنا التقاليد المشينة التي يجب أن تنتهي!
(الرقص.. اسألوا الأشجار والطيور)
الإعلامي الأستاذ عبدالله وافيه.. يقول:
الرقص فن يصنع الدهشة، وإلقاء الضوء على هذا الفن المسكوت عنه في مجتمعنا المغيب لكثير من مظاهر الفرح لأسباب أيدلوجية وغيرها يعتبر نوعاً من المغامرة تحسب للمحرر شجاعته في التحدث عن إشكالية الرقص في مجتمعنا واعتبارها عيباً ومنقصة في حق الرجل تحولت إلى ثقافة يتداولها الجميع بأن (من رقص.. نقص) فأصبح الرقص منقصة ومن خوارم المروءة بالرغم من أن تفاصيل حياتنا اليومية في الماضي تعج بالرقص والفرح.
وأصبح هذا الفعل الفطري عيباً. هذا الرقص تمارسه الأشجار والطيور ففي موسم التزاوج عند الطيور يرقص الذكر لجذب الأنثى وبهذه الرقصات يحدث التزاوج ومن ثم التناسل وبالتالي استمرار الحياة. فالرقص حياة.
في الموروث الجنوبي مثلا ً تجد الرقص جزءاً من تفاصيل الحياة، تجده في الأفراح واستقبال المواليد ومواسم الحصاد ولكل مناسبة رقصتها وطقوسها وقصائدها ففي موسم (الوسمية) الجميع يرقص ويردد قصائد مثل:
يارياح البيض هبي وانصبي عمدانها..
إن قومي حين تهبي.. ماربح ديانها.. ماربح ديانها...
كانت الناس على فطرتها تغني وترقص، بل الرقص في الجنوب (العرضة) فن له أصوله وقواعده ومرتبط بحياة الفرد في جميع نشاطات حياته، فهو عبارة عن حركات رجولية حماسية، يصطف فيها الرجال بشكل منظم ولباس معين ويصاحب ذلك قصائد وألحان باستخدام (الدف) و(الزير) وكذلك السلاح في منظر رجولي حماسي يتراقص الرجال ويدكون الأرض دكا. فهي رقصة الحرب والشجاعة. (رقصة الموت)، بل في بعض القرى كان الرجال والنساء يرقصون سويا بما يسمى ب(الشبك) رجل يشبك يده بيد امرأة في صفين متقابلين دون خبث النوايا وسوء الظن فالقلوب نقية والسرائر صافية.
لا أعلم حقيقة من سلب ثقافة الفرح منا وأدخلنا القبور وإنفاق الظلام فأصبحت حتى مواسم الزواج أشبه بأيام العزاء. فلم يعد هناك تميز، هل تقول: (ألف مبروك) أم (عظم الله أجركم).
لذلك علينا أن نتعلم صناعة الفرح. والفرح يبدأ بإعادة الجسد لفطرته وفطرة الجسد أن يرقص.. والرقص حياة..
(الحياة كلها لغة رقص)
الكاتبة الأستاذة مها النهدي.. تقول:
فُطرت المخلوقات على الرقص دون أن تدرك ذلك ودون أن يُدون رقصها على نوتة موسيقية وآلات عزف من أي نوع، فالسماء تُجيد الرقص مع المطر على إيقاعات الرعد والبرق والأرض تستقبل قطرات المطر بتكتكاتِ صغيرة على وجهها والزهور تمارس الرقص عندما تتمايل مع الندى والأشجار ترقُص مع صوت الريح ومع النسمة الشذية، السنابل ترقُص حنى تجُف وتسقُط سنابلها ويُضاجع التربة قمحها فتكبرُ وتُزهر الحقول.
حتى ذكور الطيرِ تُغري الإناث بالرقص على بلبلة التزاوج بالتغريد وملكة النحل ترقصُ فيُسعر ذكور النحل فيصدرون الطنين من حولها حتى يموت أحدهم برقصة التلقيح. والإنسان يرقصُ رقصة اللاشعور برأسه بحركات عشوائية، بأذنيه التي تراقصها النغمات، بأنفه حين يتنفس ويُحلق صدره صعوداً وهبوطاً بالرقص على إيقاعات الأنفاس، والعين تُراقصها الأجفان كخليلين أضناهما الوجد, والوجنات تُراقصها الضحكات والبسمات والهمسات، والشفاه ترقُص مع الكلمات.
عندما تعتري الإنسان نشوة الرقص تنسلخ أمامه صورة الواقع الذي يعيشه بكل ما فيه ليسبح وحيداً مع من يُحب في أعماق محيط من التماهي مع الحركة وعلى أجنحة طير معلقة بين سماء الحلم وأرض الحقيقة فلا يرى حينها أحداً سوى من يُشاركه الرقص ويسكُن مخيلته ويأسر خيالاته، يطيرُ للسماء ويُحلق بين النجوم، وتستلمُ كُل جوارحه للرقص لتُعبر كُل حركة في جسده عن حالة يعيشها أو يتمنى أن يعيشها تنفيساً عن أحلامه ورغباته المكبوتة ليُعلن وقتها إطلاق سراح كُل المشاعر المختزنة بين أضلعه فينتشي فرحاً وتكتسي كُل ملامحه علامات الرضا والرغبة في أن يتعايش الرقص أكثر وأكثر..
الرقص هو لغة الجسد وكلماتها الحركات وقاموسها المشاعر, هو اللغة التي تتكلم بها الروح لحظه لا شعور مكتظة بالأحاسيس لتنطلق من خلالها الرغبة في التعبير الحركي الحُر من كُل قيود الكلمات والحروف التي ألفها الإنسان وتربى عليها وأحالتها إلى ممنوع ومسموح.
فكل ما حولنا وفينا يرقصُ ولكل رقصة هويتها وشكلها ونكهتها المميزة، وكُل شيء يقول لنا بملء الكون: إن الرقص أصل في المخلوقات وكذلك الموسيقى وإيقاعاتها التي ألفناها حتى نسيناها ولم تنسانا.
فلم نُستكثر على أنفُسنا رقصة الطبيعة التي خلقها الله مدونة في كُل مكان.
للتواصل مع المحرر: Aldihaya2004@hotmail.com