رغم تعدد المحاور التي تتحرك في ضوئها نظرية المعرفة كونها مجموع العمليات العقلية التي نحقق من خلالها تحصيل العلم، والأدوات التي نبحث من خلالها أصول الحقائق المكتسبة والمسوغات التي تبحث في مقتضيات «الوجود والتغير»، إلا أن المحور الأخير يعد من أهم تلك المحاور؛ لارتباطه بتطور عقلانيات الإنسان وانعكاس ذلك التطور على دوره التنموي وإنتاجه.
لكن كيف تسهم المعرفة في خلق تلك العقلانيات وضبط وظائفها التنموية؟
ذلكم سؤال يقتضي البحث في مراتب فلسفة المعرفة؛ العناصر والارتباطات والعلاقات والحزم والتحققات والوقائع والتحولات، وبصورة أوضح كيف تتحول المعلومة إلى نظام والنظام إلى معرفة «العلاقات الوظيفية» والمعرفة إلى عقل معرفي؟.
إذن نحن أمام أربع مراتب لتكوين فلسفة المعرفة «المعلومة والنظام والمعرفة والعقل المعرفي» وسأحاول تحليل تلك المراتب من خلال كتابين هما «قلق المعرفة» للدكتور سعد البازعي والاستعانة أيضا ببعض مؤلفاته السابقة، وكتاب «نحو مجتمع المعرفة» للدكتور محمد الصفراني.
وتلك المراتب بدورها تضعنا أمام إشكالية «تعريف المعرفة»، والمعرفة كتعريف لا يقصد بها المرتبة الثالثة من مراتب فلسفة المعرفة «العلاقات الوظيفية»، بل الماهية التنظيرية لذات المعرفة.
ولا شك أنه ليس من اليسير أن نقدم تعريفا للمعرفة، لسببين: أولهما أن المعرفة عادة هي جزء من كليات متعددة، فهي جزء من كلية الثقافة، وجزء من كلية الخطاب التنويري، وجزء من كلية النظام اللغوي وجزء من كلية النظام الاجتماعي، وليست مشكلة المعرفة كونها تمثل جزءا ضمن كليّات مختلفة، إنما انفصالها المستمر من عن تلك الكليات لتمثل كليّة مستقلة عن الكليات المتجذّرة منها واحتفاظها بخصائص الكليات الرئيسة معا ضمن اندماج متشابك يصعب عادة تفكيكه.
وثانيهما: أن البحث في تقديم تعريف لها سيوقعك في فخ طوابع ثنائية متشابكة ما بين المدرك حاصل الحواس والمعتقد حاصل الوراثة، وما بين حاصل الفعل العقلي مجموع العمليات الذهنية ومجموع بنى المفاهيم وما بين نشأة المفاهيم وعلاقاتها.
وكل ما نفعله عادة أننا نعّرفها إما عبر وظائفها، وإما عبر تمثلاتها، وإما عبر علاقاتها، وإما عبر مجموعات وتشكلات دلالية، وأظنه فعلاً يحمينا من التعقيد الميتافيزيقي لماهية المعرفة ويقربنا من أنسنّتها.
وهذا ما فعله البازعي، فالمعرفة عنده «عملية تخلق» -كما يعتبرها- مجموعة من «النصوص» وهي عنده تشكلات دلالية للتعبير عن «احتياجات فكرية، أو مقتضيات الرؤية (قلق المعرفة، 109).
ونلاحظ أن البازعي يتحدث عن المعرفة تارة وفق علاقاتها وتارة وفق مجموعات وتشكلات دلالتها، وهو أمر يشير أن البازعي يتعامل مع المعرفة كاستراتيجية لا كماهية في ذاتها.
و(للكلمات تاريخ كما للناس تاريخ) -كما يقول البازعي وهو يقصد بالكلمات «المفاهيم»- من الاستعمال وتغير الدلالات يتصل بمتغيرات اجتماعية وسياسية وثقافية (19) وهذا ليس حال «مفهوم الثقافة» الذي يتخذه البازعي كنموذج إجرائي لتطور تاريخية الكلمات بل هو حال كل المفاهيم التي تتفاعل مع التفكير الإنساني للفرد والجماعات.
وكون المعرفة -كما ذكرت سابقا- جزء من الثقافة فهي تستمد تعقيدها المفهومي وتشعبه من تطور دلالات الثقافة وتشعبها، والجزء يحمل خصائص الكليّة، وأحيانا يصبح الجزء «كلية» تماثل «الكليّة» الرئيسة في خصائصها وهذا ما حدث للمعرفة؛ فعندما انفصلت صوريا عن الثقافة أصبحت تتماثل في ماهيتها الاصطلاحية مع الثقافة وخصائصها مما أخضع المعرفة لذات تحولات الثقافة سواء على مستوى المصطلح الذي «اكتسب مع تطورات المعارف المعاصرة دلالات متشعبة ومركبة سواء كمفهوم شديد التركيب أو في كونه متشعب الاتصالات بغيره من المفاهيم» (قلق المعرفة،19) أو على مستوى تحول المكتسب من سؤال «الماهية» إلى «سؤال تاريخي متشابك الجذور والصلات (ص 19) أو على مستوى الشراكة العالمية لصياغة المفهوم، الشراكة التي تنتج «ركاما من المقولات والدلالات والتطورات حول ذلك المفهوم» (20).
لكن تعقيد الدائرة الفلسفية للمفهوم عادة ما تُخفف عندما نحول المفهوم من زيّه التنظيري إلى زيّ تداولي من خلال ترويج الخطاب السائد، وهنا يتحول المفهوم كفعل إجرائي إلى طريقة «التحدث ومستوى المعرفة المتداولة في التعامل والحديث اليومي» (20).
وهذا التحول يتعامل مع المعرفة كمستوى تنظيري يناقش المفاهيم وأصولها ومرجعياتها ومستوى إجرائي يتناسب مع طبيعة الخطاب السائد، وبذلك فالبازعي يجعل للمعرفة مستويين بارزين: مستوى يستوقف فيه المفاهيم ويحاول « تعمقها و تعمق ما يتصل بها» (20) ومستوى يبسط من خلاله المفاهيم لتهيئتها للتداولية، ولذا يربط هذا المستوى «بالجمهور»، وهذا الارتباط يتطلب أن يصبح المفهوم جزءا من وعي الجمهور وجزءا من الخطاب التنويري الموجه للجمهور وجزءا من النظام الاجتماعي الذي يتمسك به الجمهور، وهو ما يسميه الدكتور محمد الصفراني في كتابه «مجتمع المعرفة» «بالتنمية الثقافية» وهو ما سنناقشه بتوسع لاحقا.
ما أريد أن أستنتجه من ذلك التقسيم لمستويي المفهوم عند الدكتور البازعي، أن كل مفهوم بما فيهم مفهوم المعرفة نتعامل معه وفق مستوى تنظيري وآخر تداولي، أو بعبارة مباشرة التحكم في نوعية «العلاقة بين الجمهور والمفهوم» عبر الخطاب الثقافي الموجه لذلك الجمهور، أو عبر المتوارث من معتقدات الجمهور.
وكلاهما يمثل مأزقا للمتحكم في صناعة المعرفة وللمتلقي، لأن المعرفة على مستوى العلاقات الوظيفية هي «نظام تواصلي» بين أفراد المجتمع مبني على الاتفاق والمشاركة والتصديق والإنتاج، أو ما يسميها هربرت سيمون «العقلانية المقيدة».
وتلك التنظيمات للعلاقات الوظيفية للمعرفة هي التي تؤسس خبرة الأفراد للتعامل مع العالم، وهي خبرة عادة ما تُصعّب التخلص من فهمنا المسبق للعالم وطريقة تفكيرنا في التعامل معه، وتلك الصعوبة تمثل مأزق عزلة بالنسبة للنخبوي وللجمهور»فالنخبة معزولة.. من حيث هي محاطة بأسوار التراكمات المعلوماتية والمفاهيم والمناهج والمعطيات الفكرية التي كثيرا ما تكون قبلية.. ففي معظم الحالات نكون أسرى تكوين فكري ومنهجي وأجهزة مفاهيمية تجعل فهم العالم خارج تلك المفاهيم صعبا» (قلق المعرفة،28) ولعل هذا المأزق ما جعل مارك توين يحذر من خطورة ما نعتقد معرفته «فالخطورة لا تكمن فيما لانعرفه، بل فيما نعتقد أننا نعرفه» لأنه يتحكم في يقيننا وخبرتنا نحو الأشياء.
هذا سبب أول لفشل صانع الخطاب المعرفي والسبب الثاني كما طرحه البازعي عدم قدرة المثقف على «إدراك الشائع وفهمه ومن ثم تناوله تناولا مقنعا» (29) والشائع هنا التعرف على إشكالية وعي الجمهور، وعدم القدرة على التعرف على تلك الإشكالية هي التي تجعل محاولات صانع الخطاب المعرفي تنتهي إلى «طروحات مغايرة لما كان مقصودا وإلى عجز بالتالي عن الوصول إلى الجمهور» (28) وهو عجز أفقد الخطاب المعرفي أهم وظائفه؛ أي نقل وعي المجتمع إلى ثقافة حضارية تتطلبها مقتضيات الخبرة العقلانية، وتفكيك تحزيم الخبرة التقليدية.
جدة