على ضوء هذه المخاضات العريضة، التي تعرض لها مفهوم الحداثة في حواضر الثقافة العربية، سنأتي إلى موضوعنا الأساس، لنتساءل مرة أخرى: لماذا لم يشتغل «محمد العلي» في كتاباته ومحاضراته على مفهوم الحداثة وتجلياتها المتعددة رغم ولعه المعرفي بمقاربة المصطلحات والمفاهيم؟
«العلي» - كما أشرنا سابقاً - مثقف تنويري وحداثي، في دراساته وشعره، وممارسته الحياتية، ولكنه آثر لأسباب عديدة، ومعه تيار التجديد والحداثة الأدبية في المملكة منذ السبعينات وحتى منتصف الثمانينات، التحفظ على استخدام مصطلح «الحداثة»، والعمل على تركيز الاهتمام على مضمون الشعار بدلاً من الاهتمام بفتنة «الشعار» ذاته!
لماذا؟
هذه بعض الأسباب من وجهة نظر قراءتي:
عملت مكونات البنية المحافظة في المملكة، لعقود طويلة على نشر شباكها الفولاذية لممانعة عمليات التطوير والتحديث في كافة المجالات، متمترسة خلف تحسسات اجتماعية مغلفة بثوب الدين والخصوصية، وقد ترافق ذلك مع عزلة جغرافية ومؤسساتية حالت دون تواصل ساحتنا الثقافية مع الخارج، ولذا كانت أعتى المعارك في الساحة الأدبية تنطلق من معاداتها للتجديد، ومن ضمن ذلك قصيدة التفعيلة، باعتبارها، خروجاً على ما استقر في ذائقتها من مواضعات جمالية قارة ترقى إلى مجال الكمال الدائم.
جرى تركيز تيار الحداثة الأدبية في بعض محاضنه العربية المؤثرة (تأثراً بالتجربة الحداثية في الغرب)، على تسويقها كتجربة جمالية وفكرية جديدة تعبر عن قطيعة مع التراث العربي، ومع مرتكزات التنوير في سياق التجربة ذاتها في أوروبا، وتبدّت كنزوع جارف لتحرير الذات من سطوة أو ضرورات الانهمام بمشاغل الجماعة وحاجاتها. كما أن هذا التيار الحداثي لم يقدم بديله الفكري والإبداعي المقنع للتعبير عن تلك الضرورات أو الحاجات، وتبدى آنذاك وكأنه فعل ثقافي يضرب في بيداء ضباب لا أفق له. ويوازي ذلك الجهد الإبداعي في الشعر، جهود فكرية أخرى كانت تستخدم آليات السؤال والهدم دون إيجاد البديل، ومن أبرز ممثليها، كان المفكر السعودي «عبدالله القصيمي».
لذلك كان موقف التيارات الأدبية الأخرى الحديثة (ذات الجذور الواقعية) والمهمومة بالالتزام بقضايا الوطن والأمة والإنسان، لا يطمئن كثيراً إلى ذلك التوجه الأدبي والفكري، وشعاره «الحداثة»، ومنهم هنا «محمد العلي»!
الحداثة والقطيعة:
استثارت «القطيعة» مع التراث ومتلازماتها، مشاعر «محمد العلي» في أبعادها المختلفة، من حيث، إن التراث العربي مادته الخام التي يعمل عليها في جلّ كتاباته، ومن حيث إن شعارات الحداثة الأدبية في تلك المرحلة، كانت أفقاً يسعى إلى وأد «المعنى» وإنتاج نص لا يعنى إلا بذات منتجه، وإغفال موقعه ودوره في بنية «نص المجتمع» ومآلات تطوره.
* (محمد العلي شاعراً ومفكراً - ص 299).
ويكمل هذا الموقف المعارض ل «أدونيس» بقوله: «إن أخطر وأهم ما في مقولات أدونيس هو الدعوة إلى هدم التراث بصورة مطلقة، وقد وقع في تناقضات هائلة لتبرير ذلك، لأنه دعا إلى شيء لا يمكن هدمه هكذا.. وبشكل مطلق» (المصدر السابق).
ولعل من يقرأ محاضرة «العلي» تلك، بتمعن ثقافي، سيرى أن اشتغالات «أدونيس» الفكرية على التراث، لا تتعارض جوهرياً مع تحليلات واستهدافات»العلي»، لا سيما أن كليهما يحتفيان بالجزء الحي والفاعل من «التراث» وينتقدان الجزء المعيق لتطورنا، وقد تجلى ذلك في كثير من أعمال «أدونيس» من مثل، مختاراته من الشعر العربي، وكتابه عن الحداثة الشعرية العربية، وكتابه عن «الثابت والمتحول» في أجزائه الأربعة. ولكن «العلي» هنا سيبدو وقد تمترس مع ذاته وقناعاته المتعددة ضد شعاري «القطيعة المطلقة» مع التراث، وضد «موت المعنى» الذى خطته الحداثة الشعرية في تجربة قصيدة التفعيلة، وفي تجارب قصيدة «النثر» القليلة في مراحلها المبكرة، ولعل ذلك أيضاً يفسّر لنا تحفظاته على تجربة شعراء قصيدة «النثر» في المملكة، رغم أنه قد جرّب كتابتها منذ عام 1967م وحتى اليوم!
* وبالرغم من ذلك التحرز أو التحفظ في استخدام مصطلح «الحداثة» في كتاباته الفكرية والنقدية، إلا أنه كان يضطر تحت إلحاح الوسائط الإعلامية إلى التعبير عن وجهات نظر مقتضبة في إجاباته على تلك الأسئلة حول «الحداثة»، ونقف هنا على بعض تلك الإجابات:
*الحداثة - كما أفهمها - مصطلح عربي تليد قبل أن يكون مصطلحاً غربياً. الغرب ابتكر أسلوب حداثته وفق مقاييسه ومسار تطوره وحدودها. ولكننا نحن ورثنا مقاييسها، وأدخلنا عليها مفهوماً غريباً، أحالها إلى شبح مخيف بالنسبة للغالبية من مثقفينا وقراءنا.
هذا المفهوم هو أن كل حداثة تبدأ من «القطيعة» مع التراث.
هذا المفهوم خاطئ ومضلّل.
ب- ولكنه قبل ذلك، قد توسع في تفاصيل موقفه من الحداثة عبر حواره مع «ثقافة اليوم» في جريدة الرياض عام1990م، حين طرحت عليه السؤال التالي: كيف يتعامل محمد العلي كشاعر مع جدلية العلاقة بين الحداثة وبين التراث، لاستشراف حوار فاعل ومضيء؟
وسنختصر إجابته في النقاط التالية:
السؤال واسع وعميق وملح أيضاً.. ملحّ لأننا لم نفرغ حتى الآن من تعريف التراث ومن تعريف الحداثة.. ولم نصل.. وعدم الوصول إلى ذلك بصورة دقيقة، مشكلة من أهم المشاكل التي يواجهها النقاد والمبدعون، وحتى الأشخاص العاديون على مستوى التلقي..
لم نصل إلى ذلك التعريف المحدد، وهذا بقدر ما هو إيجابي هو سلبي أيضاً.. فإيجابيته تكمن في أن الوصول إلى تعريف محدد.. هو تجميد أو تعقيد لهذا التراث، ولهذه الحداثة.. و باعتبار أن الحياة متجددة، ولا بد أن يكون التعامل متجدداً معها، وبالتالي فالتعريف لا يمكن أن يكون ثابتاً..
أما جانبها السلبي فيكمن في أن عدم الوصول إلى التعريف يخلق «هذه الاختلافات التي نراها في الساحة الأدبية والفكرية لدينا، والتي تصل في بعض الأحيان إلى حد التناحر الفكري».
التراث يمثلنا وجدانياً، ولكننا نختلف في قراءته.. إذن هو متعدد (يعني القراءات)، وما لم نؤمن بهذه المقولة فلن نصل إلى تحديد مقنع أو مفيد للتراث..
وماذا عن الحداثة الشعرية؟
الحداثة ليست واحدة على الإطلاق، فحداثة السياب غير حداثة محمد الثبيتي، وحداثة الثبيتي غير حداثة غازي القصيبي، وحداثة غازي القصيبي تختلف عن حداثة علي الدميني.
أيضاً حداثة عبد الله الغذامي غير حداثة السريحي، في حين أن القارئ يعتقد أنهما من فصيلة واحدة، وحداثة سعد البازعي تختلف اختلافاً جذرياً عن أيٍ ممن في الجامعة من زملائه..
هناك سياق يظلل كل هؤلاء ويندرجون تحته مع غيرهم.. ولكن لكلٍ خصوصيته ولكلٍ رؤيته.. هو بالذات.
الذي لا يملك رؤية لا يملك حداثة.. ونحن إذا جردنا الإنسان من الحداثة، جردناه من الرؤية ومن الخصوصية..
إذن هؤلاء، كل منهم يملك خصوصيته وحداثته أيضاً.. فالحداثة ليس لها تعريف محدد ولكنها سياق.. معنى هذا السياق أو جوهره: التجاوب مع إيقاع الحياة والتجدد مع إيقاع التجاوز إلى الأفضل.. وهذا السياق الذي هو سياق الحداثة تندرج فيه آلاف الخصوصيات التي يحملها كل فرد من شعرائنا وأدبائنا..
ج - أما موقفه الأكثر وضوحاً حيال الحداثة الأدبية والثقافية في المملكة، فقد عبر عنه، في حواره مع محطة (LBC)، حين أشار إلى أن الحداثيين قد بقوا في الساحة الثقافية، رغم ما تعرضوا له واحتملوه من محاولات الإقصاء والتشويه والتكفير، مستخدماً ضمير «نا» الجماعة التي تجعل منه عضواً منضوياً تحت شعار الحداثة في المملكة بقوله: (لقد بقينا نحن.. أما عوض القرني، صاحب كتاب «الحداثة في ميزان الإسلام» فقد مات!).
لكل ذلك.. ووفق هذه الرؤية الجدلية والتعددية لمفهوم «الحداثة»، يتجاوز «محمد العلي» موقعه المغالي في نقد «الحداثة الأدبية» (التي كان يرى أنها مضت إلى القطيعة مع التراث، وقتل المعنى في النص والتاريخ)، مثلما يتخطى تحفظاته الاحترازية في التعبير عن انتمائه المحدد إليها.
كيف حدث هذا؟
عوامل كثيرة تضافرت لتغيير موقفه، ومنها:
منذ سنوات أو آخر القرن الماضي (القرن العشرين) وحتى اليوم، شهدت حواضن الثقافة العربية، وبلادنا أيضاً، تحولات تدريجية ونوعية، أخرجت الحداثة في أبعادها السياسية من احتكار «الأيديولوجي الحزبي أو الحكومي» لها، لتغدو إمكانية -وإن كانت هامشية- لمشاركة مختلف مكونات المجتمع المدني في التعبير عن رؤاها ومطالبها بالإصلاحات الديموقراطية والاجتماعية والثقافية، وغدت معها حرية التعبير والتفكير والإبداع، جذراً أساسياً لتحقيق استقلالية «الفرد» كأساس ضروري لعملية التطوير والإصلاح الشامل..
وهنا يمكننا أن نراقب -في ساحتنا المحلية- كيف أصبحت مفردة «الحداثة» جزءاً من نسيج قاموس المصطلحات المتداولة -محلياً- جراء ما نشب حولها من صراعات، خلقت واقعاً اضطر لاستخدامها «للتوصيف أو التصنيف»، بغض النظر عن الموقف منها!
كما يمكننا أن نلحظ كيف خرجت أزمة التسميات بالنسبة لمصطلح الحداثة من مأزقها كدلالة على الإبداع الأدبي والفني وحسب، إلى مجال اشتغالها العام في مختلف الميادين، وأمكن بعد ذلك أن تطرح كشعار أو دلالة على حزمة من العناوين الدالة عليها كإطار لحركة تنوير وتحديث وحداثة شاملة في كافة أبعادها، السياسية والفكرية، والاقتصادية والاجتماعية والإبداعية.
وفي هذا الأفق المتغير، تمت زحزحة «التسمية» محلياً من مرجعية المصطلح في دلالاته وأزمنته المتعددة، إلى أن تكون «علامة» منفتحة تضم تحت شعار «الحداثة» أشواق الأفراد والمجتمعات للتجاوب مع إيقاع الحياة والتجدد مع ضرورات التجاوز نحو الأفضل، بحسب توصيف «محمد العلي» السابق لها.
ولذلك نتمنى أن نقرأ له دراسة مُعمِّقة لرؤيته لمصطلح «الحداثة» ومفاهيمها، عبر مسيرته الطويلة وإطلالاته اليوم على مآلاتها، من أجل أن تغتني ملامح مشروعه الثقافي في وجدان القراء وذاكرة الحياة الفكرية والإبداعية في بلادنا.
الدمام