فيلم «عايش» هو الفيلم الذي فاز بالجائزة الأولى لمهرجان الخليج السينمائي للأفلام القصيرة في دورته الثالثة لمخرجه السعودي عبدالله آل عياف وهو مخرج غني عن التعريف اعتاد حمل الجوائز رغم مشواره القصير والحقيقة كنت حريصة على حضور عرض هذا الفيلم وكانت السينما في اليوم الأول للعرض مزدحمة جدا لم تكن هناك مقاعد فارغة وقد حاولت إقناع موظفي الاستقبال بعدم حاجتي لمقعد وسأكتفي بالوقوف قالوا لي انظري إلى هؤلاء وهؤلاء وكانوا يحاولون الدخول مثلي الذي أدهشني أن البعض جاء لمشاهدة فيلم عايش فقط بالرغم من أن جميع الأفلام كانت تعرض في قاعة واحده بشكل متتالٍ.
المهم أنني لم أتمكن من الدخول يومها فعدت في اليوم الأخير للعرض وحرصت بأن تحجز لي تذكرة باسمي قبل ذلك بيومين وبالفعل حضرت الفيلم وكانت القاعة ممتلئة أيضا.
بدأ الفيلم بمشهد التقط بإتقان ينم عن (الموت) البطل عايش مستلقٍ على سرير أبيض ملتحف بغطاء أبيض يشبه الكفن قدماه خارج اللحاف، يرن المنبه فيشهق وكأنه يفيق من ذلك الموت، يوجد بقرب المنبه مجسم لدراجة نارية بلاستيكية وبرواز كرتوني منكب على وجهه، يعيده عايش إلى وضعه قبل خروجه من غرفته فتظهر ثلاثة وجوه، اثنان تبدو ملامحهم بوضوح وهم في وسط الصورة أما الآخر وهو عايش فلا يظهر سوى جزء بسيط من وجهه وكان في طرف الصورة في إيحاء رائع يشير إلى أن هذا الإنسان يعيش على أطراف الحياة ومقتنع بما هو فيه تسقط الصورة مره أخرى ويعيدها تسقط ويعيدها، تبقى الصورة صامدة في وضع معتدل حتى يخرج عايش ويغلق الباب خلفه فتسقط الصورة مره أخرى وكأن الحياة تعاكسه!!
عايش يتنقل بواسطة الباص يحلم بركوب دارجة نارية وهذا أقصى ما يحلم به لكنه يتردد في اقتنائها بسبب كلام الناس فهو كما يقول كبير في السن « وشو يقولون الناس؟ « مع أنه يعيش بلا ناس.
فترة عمل عايش فترة مسائية، يسير وحده بهدوء في شوارع خالية من الحركة بعد أن فاته الباص حيث كان يستمتع بمشاهد دراجة نارية من خلف زجاج المعرض، وللإمعان في أن هذا الرجل مستسلم للحظ الرديء لا يفقد أعصابه أو يرفع صوته أو يشتم عندما تبتعد عنه وسيلة النقل الوحيدة التي يعرفها بل يسير في استسلام تام تجاه المستشفى حاملا معه حقيبته التي تحتوي على برادي شاي وقهوة ومذياع، يدخل ممر طويل تشعر ببرودته لا يوجد به أحد في إيحاء إلى الوحدة التي تحيط بهذا العايش، يدخل إلى الصالة المؤدية إلى ثلاجة الموتى أو المشرحة يحمل الكرسي الذي كان يجلس عليه زميلة عند المدخل فهو لا يرغب الجلوس خارج المشرحة يطفئ النور ويدخل إلى غرفة قد تكون 6 أمتار في 6 أمتار مغطاة ببلاط أبيض من الأرضية وحتى السقف لا يوجد بها سوى ثلاجات الموتى وكرسي يجلس عليه عايش وطاولة صغيرة جدا وضع عليها برادي القهوة والشاي والمذياع.
يتحرك فيها عايش وكأنها بيته الرحب يرتب هذا يحمل هذا يغير مكان هذا يمسح الأرضية ويمضي الليل وهو في حركة ثم جمود ثم حركة وهكذا حتى يحدث ظرف طارئ يغيب الموظف المسؤول عن حراسة قسم الأطفال حديثي الولادة فيتم اللجوء إلى عايش ليحل محله ومن هنا تبدأ رحلة التغيير ولتأكيد وحدة هذا الرجل وانعزاله يسأل بتردد وعدم قبول « شلون أطلع قسم الأطفال من وين؟ « بالرغم من أنه في نفس المستشفى. أثناء سيره إلى الحضانة يستغرب الموظف الذي يؤدي دوره الممثل الشاب « عبدالله أحمد « من عدم رؤيته لعايش في أي مكان من المستشفى على مدار أحد عشر عاما وهي مدة عمل عايش في المشرحة وكانت إجابته مدهشه حين قال « أنا كله تحت ما أطلع فوق « وكأنه يقول أنا أعيش تحت الأرض أو أنا ميت !
عندما يدخل عايش إلى قاعة الانتظار المؤدية إلى قسم الأطفال يشاهد الناس والحركة والإضاءة فيصاب برهاب، يختبئ في غرفة الدرج المظلمة ويبقى هناك في صمت، يبحث عنه الموظف وحين يجده يستغرب تصرفه ويسأله أليس لديك أبناء أو عائلة فيخبره أنه وحيد وأن أمه توفيت حين كانت تنجبه.
هذا المشهد يؤكد على أن هذا الإنسان يعيش عزلة نفسية وجسدية رهيبة.
يعود به الموظف إلى الحضانة يراقب الأطفال من خلف الزجاج في خوف ودهشة وكأنه يشاهد أشباحا وبالرغم من أن عايش خرج من عالم الأموات إلى عالم الإحياء إلا أن تصرفاته تشي بالعكس خصوصا وأنه صاحب هذه الجملة التي قالها قبل أن يتوجه إلى الحضانة « الموتى ما يخوفون الخوف من الحين « !.
ملامح عايش منذ بداية الفيلم متوترة وحزينة عيناه فيها جمود الموت لا تستطيع أن ترى فيهما شيئا لكن هذا كله يتغير عندما يصطحبه الموظف إلى داخل الحضانة.. يقترب عايش من الأطفال تبدأ تلك التجاعيد في التباعد عيناه تشع بنور تعلو وجهه وللمرة الأولى ابتسامه تحمل الفرح والتردد والدهشة ثم تتبعها ابتسامه عريضة تدب الحياة في ذلك الجسد الأسمر النحيل. يقنعه الموظف بحمل الطفل فيقول « ما أعرف « وفي لقطه رائعة وفق في التقاطها عبدالله آل عياف ترتعش يدا عايش وتنحني إلى الداخل ليقول له الموظف « مد إيدك.. مد إيدك « فيمدها تجاه الحياة بتردد وخوف من حمل إنسان حي وهو الذي لا يخاف حمل الأموات طوال أحد عشر عاما.
يحمل الطفل ويلمس وجهه في سعادة بالغة وكأنه يلمس الحياة لأول مره، تلك اللحظة كانت لحظة ولادة عايش وقد جاءت الموسيقى المصاحبة لهذه اللحظة الجميلة كمكمل لهذا المشهد الرائع.
يخرج عايش إنسان آخر من قسم الأطفال يرفض ركوب الباص ويقتني دراجة نارية يقودها بكل ثقة حاملا معه « دب « وهي الدمية التي رمى بها أحدهم عند باب المستشفى حين علم أن الطفل الذي أنجبته زوجته بنت وكان يعتقد أنه ولد !
ينتهي الفيلم بنفس المشهد الذي بدأ به لكنه مختلف كليا فعايش كان ينام على سريره من غير أن يلتحف بذلك اللحاف الذي يشبه الكفن وكان ينام في وضعية القرفصاء التي يتخذها معظم الأطفال واضعا دمية الدب بالقرب منه وكأنه طفل ولد في ذلك اليوم الذي دخل فيه إلى الحضانة.
في النهاية يهدي المخرج عبدالله الفيلم لبناته (نورة وريما) مؤكدا حبه لبناته (الإناث) وفخره بهن.
الفيلم يخبرنا أن الإنسان هو الذي يصنع حياته وهو الذي يستطيع أن يجعل حياته جميلة تشبه الحياة أو كئيبة تشبه الموت. هذه هي حكاية الفيلم كما فهمتها أنا أما حكاية المخرج عبدالله آل عياف وطاقم العمل فهي حكاية أخرى اسمها (الإبداع) أبدع هذا المخرج الشاب في تأليف النص وفي إخراجه وفي اختيار الممثلين وفي توزيع الأدوار وفي تحريك الكاميرا واختيار اللقطات ركز على الأخطاء التي ترتكب في القطاع الصحي دون أن يؤثر ذلك على سير الأحداث في الفيلم. حصل هذا الشاب على مجموعة جوائز هو يستحقها بالفعل وقد تشرفت بمشاهدة جميع أعماله وجميعها تستحق الفوز.
الممثل المبدع إبراهيم الحساوى كان بطل هذا العمل بحق وقد ساهم بشكل كبير في فوزه، عندما خرجت من قاعة السينما خرجت وأنا أحب هذا الرجل الذي يدعى عايش استطاع أن يقنعني بعفويته وبراءته وطيبته استطاع أن يجعلني أتعاطف بقوة مع ضعفه لا يمكن أن أنسى شخصية عايش مادمت حية وهذا هو الإبداع أن تخترق الشخصية قلوب الناس وأن تعيش في داخلهم أهنئ هذا الممثل المبدع الذي لم أشاهد له أعمالا كثيرة والذي لن أنساه بعد هذا العمل.
الممثل الشاب عبدالله أحمد كان فاكهة الفيلم كان أداؤه كوميديا رغم جدية الدور أو الشخصية كان هادئا جدا مقنعا جدا يتحرك أمام الكاميرا وكأنها غير موجودة وهذا شيء لا يتقنه معظم الممثلين كان مكملا لأداء الممثل إبراهيم الحساوي.
جميع الذي عملوا في هذا الفيلم رائعون أبدعوا من الألف إلى الياء وأنا ولأول مرة في حياتي أشاهد فيلما وأعشقه، هنيئا لعبدالله آل عياف ولطاقم الفيلم هذا الفوز الكبير خصوصا وأن المنافسة كانت قوية في هذه الدورة الثالثة لمهرجان الخليج السينمائي.
amerahj@yahoo.com
دبي