لو كنت عضواً في أحد مجالس إدارات المؤسسات التابعة لوزارة الثقافة والإعلام، لبادرتُ بالاستقالة فوراً قبل أن أُقال. إقالة الأعضاء واردة ومحتملة في أي لحظة، وقد لوّح بهذه الورقة سعادة وكيل الوزارة المكلف الدكتور عبد الله الجاسر، بنبرة لم يعهدها الإعلاميون والمثقفون من قبل: نبرة صارمة وضّحت حدود الصلاحيات التي ستبدأ الوزارة في ممارستها. قال سعادة الوكيل: «على من لا يتوفر فيهم التأهيل الإعلامي، أو الثقافي، أو الإداري، أو القيادي أن يستقيلوا قبل أن يُقالوا «.
وقد يبدو أن في هذا القول استثناء ما يسمح لبعض الأعضاء الذين يحسبون أنهم مؤهلون بالبقاء في المجالس مطم ئنين، لكن الحقيقة أبعد ما تكون عن ذلك. لو تأملنا مسألة التأهيل التي يرتكز عليها الاستثناء لابتلعتنا متاهات الغموض، ولثارت في عقولنا أسئلة عديدة. عن أي مؤهلات يتحدث سعادة الوكيل؟ وهل هي مؤهلات ذاتية أم مكتسبة؟ من هو المؤهل من كل هؤلاء الأعضاء؟ وما هو معيار قياس درجة ذلك التأهل؟ وهل تقدم أولئك الأعضاء بطلب للتعيين منذ البداية، مرفقاً بمؤهلاتهم، حتى يكون مؤهلهم هو الحصانة ضد الإقالة اليوم؟ أم تم تعيينهم أصلاً على أسس العشم وحسن النية، وليس على أسس الرضا عنهم كونهم مؤهلين ؟
حين اصطفت الوزارة أعضاء مجالس أنديتها الأدبية على وجه التحديد، لم يعرف أحد شيئاً عن الأسس التي ارتكز عليها ذلك الاصطفاء، لكننا ظننا أن الاصطفاء كان دليلاً على أن الوزراة رأت في الأفراد المُصطفين قدرات وسمات تؤهلهم لإدارة المجالس، (باستثناء النساء طبعاً اللواتي ينقصهن التأهل الجندري). وحين بدأ العمل، وظهرت العقبات وطفت المشاكل على السطح، انصب اللوم على الأعضاء، وتنصلت الوزارة من اختياراتها، ثم جاء اليوم هذا التهديد بالإقالة نصاً صريحاً على عدم الرضى، وعلى عدم التأهل، وعلى التراجع عن التعيين الاصطفائي.
وقد يتبادر إلى الذهن أن الوزارة حين تُعيب على أعضاء مجالس مؤسساتها عدم توفر التأهيل لديهم، أنها قد اجتهدت في تصميم، وتطبيق برامج تأهيلية مكثفة، وأجبرت الأعضاء على حضورها، واشترطت عليهم النجاح فيها، فلما فشلوا، أُسقط في يدها فلم يبقَ لها من سبيل سوى تسريحهم. لكن الواقع يثبت أن الوزارة لم تفعل من ذلك شيئاً، بل الأسوأ من ذلك أنها حين اختارت أولئك الأعضاء لم تزودهم حتى بلائحة واضحة للعمل، ولم تضع لهم خطة يتبعونها، ولم تبين لهم ملامح استراتيجيتها المأمولة. كلنا يعرف أن لجنة من نفس الأعضاء عملت على إعداد لائحة تحكم العمل في الأندية الأدبية على مدى أربع سنوات، لم يتم اعتمادها إلا قبل أسابيع فقط. وهي نسخة دقيقة عن اللائحة القديمة التي وضعها نادي جدة الأدبي منذ أمد بعيد، واللائحتان قاصرتان عن تحقيق الكثير من الأمور، أهمها خطة عمل مفصلة توضح الأنشطة المتوقعة، وهيكل تنظيمي يحدد أدوار كل الأعضاء، ويبين طبيعة العلاقة التي تحكمهم.
الحقيقة أن الوزارة اختارت أعضاء المجالس وتركتهم يتحسسون طريقهم ويجتهدون. كان أمامهم النموذج الذي سيتبعونه، وهو ما قامت به الأندية القديمة مثل نادي جدة ومكة والرياض، وكانت أنشطتهم هي المتاحة أمامهم، فاستمرت الأندية القديمة على حالها القديم، وقامت الأندية الجديدة باستنساخ التجربة دون أن تحيد عنها، والوزارة تتفرج من بعيد، ثم تتدخل لتفض النزاعات القائمة، وتقبل الاستقالات، وقد تعوضها بتعيينات بديلة، لكن العلاقات المتأزمة كانت دليلاً قاطعاً على ضياع الطاسة، وعلى افتقاد نظام واضح يضع النقاط على الحروف. هل نريد دليلاً أكثر سطوعاً على غياب التنظيم داخل أروقة الأندية الأدبية؟ حسناً، في هذا التصريح ذاته لسعادة الوكيل تنويه يؤكد غياب اللوائح التنظيمية للعمل داخل الأندية، فسعادته يقول: إن الوزارة تطمح إلى تغيير شامل يؤدي « إلى نهضة كبيرة من شأنها تجديد اللوائح الداخلية لهذه المؤسسات والجمعيات». نعم، الوزارة ما زالت تطمح، والعمل يجري دون نظام يحكمه!
واعتبر سعادة الوكيل أن «بعض رؤساء مجالس الإدارات يرون في هذه المؤسسات ملكاً خاصاً لهم يتصرفون بها كيف ما شاؤوا، مخالفين بذلك اللوائح الداخلية التي أقرتها وزارة الثقافة والإعلام». وأنا لن أدافع عن الرؤساء المتسلطين، المتملكين لما لا يمتلكونه، لكنني أتوقف طويلاً عند تلك اللوائح الداخلية التي أقرتها الوزارة. هل يعني ذلك أن الوزارة قد أقرت لائحة للعمل في الأندية الأدبية دون أن تُعمّمها خارجياً، أم أن هناك لوائح داخلية وأخرى خارجية؟ لا أفهم!! إن كانت تلك اللوائح داخلية، فالمعنى الأقرب إلى الأفهام أنها خاصة، وحكر على الدوائر الداخلية في الوزارة، أي أن من هم في الدائرة الخارجية لم يطلعوا عليها. في هذه الحالة، لا يجوز أبداً للوزارة أن تُلزم الأعضاء بعدم تخطّي محذورات لوائحها الداخلية. ثم إنني أحاول أن أتخيل ذلك النص من لائحة ما يقرر مخالفة الرؤساء حين يتصرفون في الأندية وكأنها ملك خاص لهم: « لا يجوز لرئيس مجلس إدارة أن يتصرف في نادٍ أدبي وكأنه ملك خاص له»؟؟؟
يتضح جلياً من تصريح سعادة الوكيل أن الوزارة قد سئمت الخلافات الشخصية بين الأعضاء في الأندية، وهذا أمر مُملٌ حقاً، وللوكيل كل الحق في رفضه، لكن سعادته لا يضع اللوم موضعه الطبيعي: أين النظام الذي يمنع تلك الخلافات؟ هل يعرف كل عضو مجلس إدارة وظيفته وحدود صلاحياته؟ إن كانت هناك أربعة مناصب، يشغلها أربعة أعضاء (الرئيس والنائب والمدير المالي والمدير الإداري)، فما هو دور الأعضاء الستة المتبقين؟ أن يحضروا مجالس الإدارة فقط؟ أن يصوتوا؟ هنالك مجالس لا يكتمل فيها العدد العَشري، ولم يؤثر ذلك النقص في سير عملها، وهذا مؤشر على أن الأدوار والوظائف تتبادل وتتداخل، وأن كل نادٍ يجتهد حسبما يرى، وأن تلك الرؤى هي عرضة للاختلاف والمخالفة، ومن ثم الخلاف.
لكن سعادة الوكيل يضع اللوم، كل اللوم، على الأعضاء الذين وصفهم ب «العجز والضعف» ثلاث مرات في تصريحه: فالوزارة « لن ترضى مطلقاً بوجود كيانات ثقافية، أو إعلامية يعتريها العجز والضعف»، كما أنها لن تقبل أن يتحجج أعضاء المجالس بقلة الموارد المادية، ويستخدمون تلك الحجة ك « شماعة.. لتغطية ضعف القائمين وعجزهم عن أداء عملهم»، وأن السبب ال»رئيسي في ضعف وعجز « الأندية هو تلك الصراعات الشخصية التي تعيق النهوض بأدائها.
من حق الوكيل أن يستحث الهمم، وأن يقلل من شأن مبررات التقاعس، كالخلافات الشخصية والتذمر من ضعف الميزانية، والوجاهات المزعومة. لكن إلزام الأعضاء بخطط مجهولة، ومطالبتهم بالحنكة والبراعة الإدارية في ظل غياب تام للوائح ونظم محددة، كلها أمور سيصعب تنفيذها. تطمح الوزارة إلى قياديين يحققون لها حراكاً ثقافياً متميزاً في كل الأندية، لكنها لا تبين لهم ماذا ولا كيف، ولا تضع لهم أهدافاً ولا استراتيجيات، بل تضعهم في مواجهة عنيفة حين تأتي على ذكر المنافسة بينهم. يصرح سعادة الوكيل بأن الوزارة « ساعية الآن» إلى العمل في « ظل المشروع الطموح لاستراتيجية العمل الثقافي والإعلامي»، لكنه لا يُفصّل ملامح هذا المشروع، ولا يضع له خطة زمنية. الواضح فقط أن الوزارة تخطط لإعادة هيكلة مؤسساتها للتوصل إلى « تجديد آليات التنافس بينها». تريد الوزارة أن تتنافس تلك المؤسسات على التميز، لكن دون تأهيل، ودون رؤية، ودون أهداف، ودون تنظيم!
سيطمئن البعض من الأعضاء الكرام، ويختار التمسك بمقعده في المجلس الموقر؛ لاعتقاده أن سعادة الوكيل يُعمّم الخطاب، لأنه لا يريد أن يُخصّص، فذلك البعض على يقين راسخ بأنه ليس من أولئك المقصودين بالتهديد، فهو مؤهل بالتأكيد، وإن لم يعرف تماماً طبيعة مؤهله ولا لأي شئ هو مؤهل. أما كيف يحكم الواحد من أولئك الأعضاء المطمئنين على جدارته، فالمعيار المتوفر هو: ألا يكون مثيراً للشغب، وألا يُقحم نفسه في الصراعات الشخصية التي تتململ منها الوزارة. لكن هذا البعض المطمئن يجب أن يتأمل كل ما ورد في التصريح، لأن مسألة التأهيل الثقافي قد تعني أيضاً أن السكون، والركود، والغياب الحاضر كلها غير مرغوبة، وأن العمل المتميز مطلوب بقوة، وإن كان لا ملامح له؛ العمل مطلوب وإن ظلت سمته الوحيدة هي أن العضو يجب ألا يكتفي بأن يكون كمالة عدد.
الوزارة يا سادة يا أعضاء تراقبكم بتمعن، وتتوقع منكم عملاً جاداً يحرك الساحة الثقافية بتميز ملحوظ. المهمة لا تتجاوزالسطر كما ترون، لكن لا تستسهلوها، فهي مهمة غامضة، فضفاضة، تحتمل كل شئ، وتخالف كل توقع. لو كنت في مكان أحدكم لسارعت بالاستقالة قبل أن أُقال، فلا أحد يعرف حقيقة إن كان مؤهلاً لمهمة لا يعرف كنهها. والأمر الذي يجب أن يثير القلق أكثر هو أن تهديد الوكيل: «على من لا يتوفر فيهم التأهيل أن يستقيلوا قبل أن يُقالوا»، لم يوضح تماماً، إن كانت عملية تقييم التأهيل ذاتية، فيبدأ كل عضو في تعرف مؤهلاته إن وجدت،
أم أن الوزارة ستُخضع الأعضاء لاختبارات قياس التأهل عن بعد، ثم تفاجئ عديم التأهل بإقالة مدوية. الأمر مقلق!
lamiabaeshen@gmail.com
جدة