Culture Magazine Thursday  22/04/2010 G Issue 307
فضاءات
الخميس 8 ,جمادى الاولى 1431   العدد  307
 
قلق المعرفة للبازعي
قراءة "فيها" و"عنها"
لمياء السويلم

الأسئلة كانت دوما وليدة قلق صاحبها، وشوقه إلى المعرفة، بينما في التلاوة الأخرى القلق هو ابن الأسئلة ووجد صاحبها بالمعارف، ولأنها تفاعل الذات بين انفعالها مع قلقها وفعلها فيها، لم يكن من الممكن إدارك أيهما وليد الآخر لكنه من الإمكان الذي لم ينكشف بعد أن ندرك كيف يختلف سؤال القلق عن قلق السؤال، والفرق ما بين وجد المعارف والشوق إليها، ولعل في حروف الجر خير الأدوات التي يحسن بها العمل.

بالبدء كيف يستوي السؤال عن المعرفة مع السؤال فيها، وكيف لا ندرك الفرق بين قلق العارف وبين قلق الجاهل، ومتى ستنكشف الفروق بين اللا أدرية، فالعارف الذي اشتغل في حقله وانشغل العمر به، يعرف أنه لا يعرف ويقلق لأنه لا يعرف رغم كل ما يعرف، ويسأل في عجزه عن بلوغ منتهى المعرفة التي يدرك أنه لن يبلغها، فيذوق وجد الحب عن تجربة، يتقلب من فرضية لأخرى ومن استفهام لآخر ومن رفض لقبول ومن قبول لرفض، يحتار مما يعرف ويعجز من أن يكف لأنه ابتدأ ولن ينتهي، يدرك عن معرفة أنها حياة المعرفة يولد فيها ويموت وتبقى فوقه متعالية مستعصية تغير من أحواله وأطواره ويظن في كل مرة أنها يفعل هو فيكتشف أنه ينفعل بأفعالها هي ليس إلا، ويحسب كل حين أنه اكتشف جديدا ليدرك بحين بعده أنه انكشف هو، إنها حيرة اللاأدرية "في" المعرفة، قلق فيها وعليها..

فماذا هو توجس المعرفة واللاأدرية "عنها"، حياة الجاهل الذي لا يعرف، ويقلقه أن يعرف، تدركه صورة المعرفة ونتائجها، يتوجس أن تبلغه، فيسأل عنها لا فيها، يرفض ويقبل حضورها فيه مخافة أن تستحضره فيها، يحتمي ببداهة الأنا الفاعلة، يخشى على سلطته من أن تدركها الأسئلة، يحسب في نفسه أنها تملك نفسها، لكنها في حين من الأمر لا يعرفه سيعرف أنه لا يعرف، وسيأخذه خوفه من المعارف إلى الشوق إليها، سيصير إلى السؤال عن المعرفة، ويحاول أن يدافع عن جهله في عداوتها، إنه توجس اللاأدرية يستعجله للأجوبة علّ الاستفهامات تنطفئ، فإن انطفأت فالجهل قد احتكمه، وإذا اشتعلت فإنه الشوق يأخذه إليها، فتذهب به الأسئلة عن المعرفة إلى داخلها، فتدركه السؤالات فيها، ينفعل باستفهاماتها بعد أن كان يفعل الاستفهام عنها، يتكبده وجدها، فيتقلب قلق فيها وعليها، فإذا بها اللاأدرية تأخذه بحيرتها، كان يقلق منها صار يقلق بها، كان يسأل عنها، صار يسأل فيها، كان يشتاقها صورة وشكلا فإذا به يتوجد نار الجوهر وتجربته..

في مطلع هذا العام 2010 صدر عن المركز الثقافي العربي كتاب "قلق المعرفة" للدكتور سعد البازعي، عنونه بإشكاليات فكرية وثقافية، تتابعت فيه الأوراق على عدد من المواضيع القلقة، استفهامات معرفية تقول عن ما بصاحبها من قلق اللاأدرية، عن الشك المؤمن والإيمان بالشك، تكتب شيئا من حيرة العارف الذي لا يعرف، تجترح أجوبة وتسائلها لماذا تجاوب، تتوزع بين وسائل الفن وقضاياه، لا تنتصر للأخلاق لأنها سلطة بل لكونها حكمة، هو العارف لا يقصد هدفا بل ينفتح لتبلغه مقاصده، يكشف عن وجده لينكشف وجده عن الأسئلة، يقرأ الرواية ويفزع منها اذا ما اطمأنت لها الدراية، ينتقد توظيف الظواهر بدل فهمها لأنه لا يبحث عن الأجوبة بل فيها، يشير إلى مناطق التقاطع بين الثنائيات والتيارات المتضادة لأن الرؤية التركيبية المؤشكلة عليها أن تقرأ الألوان جميعها ولا تقف على البياض والسواد فقط، يبدو الكتاب كمحاورة هادئة منفعلة بانشغالها لا ترغب أن تشغل صوتا أو صورة، يشغلها أولا همها وأخيرا همها، كتاب يقدم لقلق الانتماء كما إدوارد سعيد وعقدة النقد أو الفلسفة كما بين طرابيشي والجابري، يسائل الأطر في البدء، وإلى أين وكيف يُعمل بتركة المفكر، كما في رحيل المسيري وذاك في ثاني الفصول، يذهب في خامسها إلى سؤال المعاصرة وهو مايأخذه إلى التنوير في الفصل السادس، يقف سابعا مكان الآخر في سؤالاته عنا، ويطرح ثامنا وبتوسع قلق اليهودي، خطابه الإصلاحي، دروس التاريخ، وإسرائيل في الانتصارات العسكرية والهزائم الأخلاقية، ويختم بقلق التأليف لديهم..

يسأل البازعي في الفلسفة لا عنها، ويستفهم الفرق مابين التفلسف وعلمه، هو نفسه الذي أسس مع مجموعته حلقة الرياض الفلسفية قبل عامين، لم يقف اليوم على مسائلة نتائجها كما لو أن التجربة نضجت والإنجاز اكتمل ودار الوقت على النتاج، إنه العمل في الحقل والتجربة استولد فيه أسئلة الجذور قبل الحرث وبعده لأن الحصاد ليس الهدف لا وليس هو الثمر، عملية الزراعة بشمولها هي حيرة اللاأدرية، قلق العارف على معرفته وقلقه فيها، الباحث في أجوبته لا عنها، الشاك بإيمانه فيها، والمؤمن بالشك عملا تجريبيا مستديما، لا شكا دفاعيا متحصنا بإيمانه البداهي متوجسا من شوقه إلى المعرفة.

إنها اللاأدرية المعرفية تبحث في الأجوبة لا عنه بينما اللاأدرية عن المعرفة تبحث عن الأجوبة لا فيها، فمن أراد الحكم استفتاه، ومن أراد العلة ذهب بالمعلول إلى ما فيه، إنها البداية التي لا تصل، والتوالد الذي يتجاهل نتاجه ولا يموت به جيل ولا يفنى، إنه قلق المعرفة خالد وصاحبها فان..

lamia.swm@gmail.com الرياض
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة