وُلِد عبده خال إبداعياً في ملحق «أصداء الكلمة» الشهير، الذي كانت تصدره صحيفة «عكاظ»، ويشرف عليه الناقد اللامع سعيد السريحي، وذلك منذ عام 1982م، وهو العام الذي التحق فيه بالصحيفة للعمل في القسم الثقافي. وقد قاد هذا الملحق حركة الحداثة الأدبية في المملكة طوال الثمانينيات، بما أحدثته من تجديد أدبي في الرؤية والمفاهيم والأدوات، وما استثارته من ردود فعل التيار التقليدي. وكان عبده خال محرراً فاعلاً في الملحق الذي أخذ يتسع ويحتشد بأسماء شعرية وسردية ونقدية عديدة.
وبالطبع تشرَّب عبده خال المفاهيم الأدبية الحديثة، وارتوى من معين يفيض بمعان نقدية عميقة تجاه الجمود والتقليد والانغلاق الثقافي، وينبض بحماس تجاه المعاني الإنسانية التي تضيق بكل ما يحدُّ من القدرة على الوجود والفاعلية. وزاد عنف المواجهة وشراستها من تمحيص معاني الحداثة والإمعان في صقل رؤيتها الإبداعية وأدواتها، عن طريق الانفتاح على المنجز الإبداعي والتيارات الثقافية الأدبية في الخارج، وذلك بالقدر نفسه الذي أصبحت حُمَّى التنافس مع الجيل أو الأجيال السابقة، فضلاً عن التنافس بين أبناء جيل الحداثة أنفسهم، مناخ «قلق التأثير» المعتاد إبداعياً كما أسماه هارولد بلوم، لكن برغبة اختلاف أكثر سطوعاً وتحريضاً.
وقد كان عبده خال من أكثر الروائيين السعوديين اجتراحاً للحداثة في رواياته، سواء من حيث هي موقف وعقلية منحازان إلى حرية الإنسان وفاعليته، وإلى وعي المسافة التي تفصل عن المدنية الحديثة التي أعادت - عربياً - إلى هموم المثقفين أسئلة التنوير الذي يحيل المشكل الواقعي إلى مدار العقل والثقافة، أم من حيث هي رؤية تَجَدُّد مستمر للكتابة والإبداع، تنمُّ عن حسابات للزمن والحقيقة والكينونة مفارقة للثبات والتقليد والإطلاق والكلية. وكان السرد عنده مُجلَّى اكتنازا بالحوار الذي يأخذ وجهة بحث واكتشاف بقدر ما يأخذ وجهة نقدية اعتراضية، وليس هناك حوار، كما قال باختين، مع اليقين.
هكذا نواجه مظاهر عديدة لحداثة الرواية عند عبده خال، وأولها عناوين رواياته. فعنوان كل رواية من روايات عبده خال ينبع من الرواية بوصفهاً كلاً، لكنه يقوم على التجريد لنص الرواية، وهو تجريد يأخذ صيغة شعرية تصنع دلالة تخييلية كثيفة وإيحائية بما يوسع مدلولها. ولا تنفصل تلك الصيغة عن الرواية أو تُلْصَق عليها مجاناً، وفي الوقت نفسه لا تتصف بالدلالة المباشرة على الرواية, وإنما بدلالة ضمنية لها أو بدلالة معنى المعنى فيها، بمصطلح الجرجاني. وبذلك نخرج عن الطريقة التي اعتدناها في العَنْونة التي لا تؤلف نصاً، وإنما تُعَنْوِن بثيمة أو علم شخصي أو مكاني وبما يتفرع عن ذلك من أسماء الأشياء والأحداث والألقاب والأوصاف، أو تتجه وجهة رومانسية من خلال العلاقات بين مفردات ذات حمولة عاطفية معينة. وبذلك جاوز عبده خال بعناوين رواياته العناوين الكلاسيكية والرومانسية والتاريخية والواقعية.
وأعتقد أن ذلك منعطف واضح في الرواية السعودية، قياساً على جَرْدة العناوين التي تمدنا بها في فترات تطورها المختلفة. فقد هيمنت أسماء الشخصيات والأماكن والأحداث والثيمات، كما هيمنت الصيغ الرومانسية التي لا تنفك عن تداول مفردات من قبيل: الدموع، والحرمان، والحب... إلخ، وما يتصل بذلك من دلالات جسدية ووجدانية مخصوصة. وكان هدف الإغراء والدعاية والترويج التجاري في العقد الأخير الذي يزامن صدور معظم روايات خال بارزاً في عدد غير قليل منها، وذلك بالترهين من موقعها الجيوسياسي والثقافي لعناوين تحيل على الإرهاب وما يتصل به من جماعات وفئات وأشخاص وأماكن، وعلى معاني الكشف والهتك للمستور ذي المحافظة والتقليدية والتشدد تجاه المرأة تحديداً.
إنَّ عناوين روايات عبده خال تنقسم بوضوح إلى صيغتين لغويتين، الأولى تتألف من جملة في ثلاث دوال تحمل إسناداً مجازياً، هو ما تسميه البلاغة القديمة المجاز العقلي أو المجاز الحكمي؛ لأن مجازيته ليست من دلالة الكلمة، وإنما من الحكم الجاري عليها أو المسند إليها. وهو حكم مجازي؛ لأنه يخرج عن دلالة الإسناد المعتادة التي يُسْنَد فيها الفعل إلى ما هو له في الظاهر، إلى الإسناد إلى غير ما هو له بقرينة الاستحالة العقلية في أن يقوم الفاعل بهذا الفعل. وهو بلغة علم الأسلوب الحديث انزياح عما هو معتاد ومألوف، والانزياح فيصل بين الكلام الفني وغير الفني؛ لأنه وحده الذي يمنح الشعرية موضوعها الحقيقي كما قال جون كوهين.
وتتشارك في التمثيل على هذه الصيغة، عناوين روايات: «الموت يمر من هنا» و»مدن تأكل العشب» و»الأيام لا تخبئ أحداً» و»ترمي بشرر». وهي صيغة تُنْتِج كثافة دلالية في تلك العناوين وإيحاءً، وتصلها بمحتوى الرواية بعلاقة غير مباشرة. إنها تجريد الرواية الذي يلخص دلالتها من وجهة تأويلية، ولا ينفك عن إنتاج المعنى تجاهها بسبب ما يمتلكه من تخييل وإيهام واتساع للدلالة. والفعل المضارع الذي تتشارك صيغة العناوين الأربعة البناء عليه يصنع لها دلالة الحضور والراهنية وعدم الانقضاء، وهي دلالة تتشارك معناها وتتبادل التأكيد عليه مع الإشارة الظاهرة أو المضمرة إلى الزمان أو المكان.
ولو استبدلنا بعنوان «الموت يمر من هنا» قرية السوداء، وهي مكان ومادة السرد في الرواية، أو «السوادي» وهو حاكمها المتجبر، أو ثيمة السلطة المتعسفة التي تشتغل الرواية عليها، وذلك ما يوافق الطريقة التقليدية في عَنْوَنَة الروايات، لفقدنا شعرية هذا العنوان ودلالته الإنتاجية للمعنى التي تضيف إلى الرواية تخييلاً من خلال إسناد فعل المرور إلى الموت، وهذا تشخيص لما لم نَرَهُ، ولن نتوقعه، واسم الإشارة (هنا) الذي يتبادل مع الفعل المضارع دلالة حضور وراهنية، بحيث يغدو العنوان وكأنه صرخة حية من داخل القرية تتصل بموقع الراوي المتكلم في داخل الرواية وتضاعف وظيفة شهادته وسيريته. وهي دلالة تحيل العنوان إلى فعل خطابي تستقل عنه الرواية وتتضمنه، وتنفصل عنه بقدر ما تتصل به على المستوى البنائي الشعري، وعلى مستوى المضمون.
هذا العنوان، في تحاشيه التقرير والنثرية، يشتغل من خلال بنية درامية لصيغة جملته التي تنتقي وتؤلف بين متقابلين هما الموت والحياة، بدلالتهما النفسية والوجودية وليس اللفظية. فالموت دلالة مقابلة للمرور بوصفه متعلَّقاً للمكان الذي تشير إليه «هنا»، وهي دلالة تحمل ما يتداعى إليه الموت من فناء وعدم وخراب ومن هلاك وسقوط وجمود وحَبْس وانقضاء ونهاية ويأس. في مقابل دلالة الحركة على الحياة التي تتداعى إلى الوجود والفعل والاستمرارية والبناء والشعور والتنوُّع والأمل والحُلم واللذة والصحة، وتبدو فعلاً نضالياً ضد الموت. وبذلك يتولد الصراع بينهما، وهو صراع تصنعه عبارة العنوان بما يعبِّر عن شعور الجزع والفجيعة والاستغاثة، لكن في موضوعية تجاوز التعبير الذاتي من خلال تشخيصه درامياً.
وبالمنطق الشعري نفسه ينبني عنوان رواية «مدن تأكل العشب». فليس هناك جامع بين المدن والعشب؛ ولذلك تستدعي الذاكرة فائض المعنى فيهما الذي يوحي بالإسمنت والآلية والضخامة والجفاف والفردية في دلالة المُدن، في مقابل الريفية والعضوية والري والقِلة في العشب، وتأتي المدن فاعلاً لفعل الأكل الذي يقع على العشب. وهكذا تنتقي صيغة العنوان وتؤلف دلالة درامية من خلال الاختلاف والتقابل بين المدن والعشب، وهو تقابل بين الطرفين من خلال رصيدهما النفسي والوجودي، وليس تقابلاً لفظياً على أساس من الطباق أو التضاد المألوف في البلاغة التقليدية. وإذا كان التقابل على هذا المنوال يصنع الحوار والصراع والحركة، فإن فعل الأكل (الذي يتداعى إلى الافتراس والاغتصاب والعدوان وأفعال الانتهاك والتسلط والظلم) يشخِّص العلاقة بين الطرفين المتقابلين، ويَنْتُج عن ذلك دلالة موضوعية تنفصل بالعبارة عن الذات وتؤكد على الحضور الفكري بقدر الحضور الوجداني. وتبدو هذه الصورة في جُملة العنوان في علاقة ضمنية مع الرواية وبطلها القروي المنذور للتيه والضياع في المدن بحثاً عن المال، أي عن العشب بتصور ما.
وفي جملة «الأيام لا تخبئ أحداً» عنوان الرواية الثالثة، يضيف عبده خال تأكيداً جديداً على وظيفة العنوان الدلالية لديه، فلم يعنونها باسم «أبو حية» أو باسم «أبو مريم» أو باسم الحي وهو «الهندامية» أو بما يشير إلى السجن الذي يقبعان فيه - مثلاً - وإنما عَنْوَنَها بتلك العبارة التي تتضمنها دلالة الرواية تَضَمُّناً، وبذلك تتأسس العلاقة بين الرواية وعنوانها بما يجاوز العنوان المباشر والتقريري إلى عنوان شعري وأدبي يتبادل دلالة إنتاجية مع الرواية. هذه الدلالة في ضديتها للتعتيم والتخبئة والسرية هي فعل الرواية الذي يكتسب أهمية في سياقها تحديداً من غموض الأحدث التي تبدأ باختفاء الفتاة ومن تضارب الأقوال وكثرتها وتعدد الرواة. والأيام هنا هي فاعل الفضح والتعرية الذي يغدو فاعلاً مجازياً عن الرواية وعن السرد إجمالاً؛ لأنه يمتلك الزمن ويمنحنا فرصة أن نبصر الأيام من خلاله، وذلك يجعل العنوان مُجلَّى دلالة درامية ناتجة من وضع الأيام في مقابل فعل التخبئة الذي يتصل دوماً بالخديعة والجُرْم والخوف أو بالجهل!
ويضيف عنوان «ترمي بشرر..» اتساعاً في طاقته التمثيلية المجازية بتضمين من آية في القرآن الكريم تصف جهنم التي ينصرف مجازها في الرواية، إلى حارة الفقر والسُّخْرَة موطن بطل الرواية.
أما الصيغة الأخرى في عناوين روايات عبده خال فتقوم على مفردة اسمية، وتمثل عليها روايات: «الطين» و»نباح» و»فسوق». وبالطبع فإن الكلمة خارج التركيب لا تدل، وإنما تدل العلاقة التي تربطها بغيرها، وهي علاقة مضمرة مع الرواية بحيث تغدو تلك المفردات في موضع التجريد للرواية والتلخيص لها، وبالطريقة التخييلية التي تعتمد المجاز، ولا تدل بشكل مباشر. فليس في الرواية المعنونة بالطين ذكر للطين، ولكن بحثها الفلسفي والسيكولوجي في الإنسان مناسب لاقتراح تأويل ومعنى لها، وهو اسم الإنسان ووصفه الذي يعيده إلى أصله. وفي نباح الذي يحيلنا على الكلاب؛ ما يضخم الإحساس بالنجاسة والقذارة والفساد بالمعنى الاجتماعي الثقافي بعد أن انتهى بحث الراوي عن حبيبته، في ظروف الحرب، وكان خديناً لكوادر جهادية وقومية، إلى مأساة انحطاط الحبيبة وبيعها اللذة للعابرين!. وهو المعنى التعميمي نفسه الذي تصدق عليه دلالة «فسوق»؛ حيث تنضح الرواية بخطيئة الولغ في أعراض الناس الناتجة من دعوى الحفاظ عليها.
الرياض