في إضاءة قريبة من الروح على حياة رموزنا الأربعة من الداخل، أي من عمق أسرهم التي تختزن كمًّا هائلاً من مآثر علمائنا الذين كانوا في حياتهم، وما زالوا بعدها، يشكِّلون علامات فارقة على خارطة الفكر عمومًا على المستويات كافة..
وحين نقول إضاءة حياة علمائنا الأربعة هنا (من الداخل) فإننا نعني بذلك أننا سنحاول طرح المزيد من شخصياتهم من نقطة أعمق من تلك التي لا تتعدى نتاجهم الفكري ودروسهم. ولعلنا بذلك نطرح سؤالا كبيرا عن دور المؤسسة الثقافية الرسمية في تفعيل مناسبات كهذه، تمنح الأجيال حق الاطلاع على أبرز معالمهم الفكرية في التاريخ الحديث، واستعادتهم (في ذاكرتنا الاحتفائية) من جوانب أخرى مختلفة عن المعتادة، كإضاءة سيرهم من خلال أسرهم وأبنائهم وزوجاتهم ومَنْ عاشوا قريبًا منهم ومن مآثرهم الخالدة.
وكما أسلفتُ سابقاً في مُذكراتي، التي نشرتها سيدتي الجزيرة، فإنني أعودُ اليوم لأبوح للقراء بشيء من وهج ضياءات الأُلى الذين كانوا رموزاً لبرنامج إضاءات مكة بمؤسسة مكة الكائنة بحي الروابي بالرياض، وسبق الحديث عن احتفائها بالشيخ العلامة محمد العثيمين.
ابن غصون
ففي يوم الأحد الحادي والعشرين من شهر ربيعٍ الأول احتضنت مؤسسة مكة غصونًا وارفة، مثمرة..!
كانت تلك الثمرات طيبة الغراس، هي القطاف اللذيذ للغصن الصالح فضيلة الشيخ القاضي صالح بن علي بن غصون - رحمه الله -؛ حيث تسامت تلك الغصون بسموق يسحر الأبصار، وغيمت أركان القاعة بفيء من ظلال الشوامخ الذي تفسح لعدد من المدعوات، وكانت ساعة المغرب لحظة اجتماع الحضور الذي شرح النفوس وزادها ابتهاجا وأُنسا.
حينها كان الإمام الراحل ابن غصون - طيب الله ثراه - أسوة في تأهب للحديث عنه.
فابتدأ اللقاء بسداسية سرد شائقة، تشاطر فيها الحديث كل من:
د. منيرة، ود. حصة، وأ. فوزية كريمات الشيخ صالح بن غصون - رحمه الله - مع شقيقيهن: أ. علي وأ. أحمد، وأحد طلاب الشيخ د. طارق الخويطر.
وقد افتتح اللقاء الأستاذ علي الغصون متحدثاً عن تربية والده - رحمه الله -، الوالد الذي عاش في كنفه ابناً يتعلم من مدرسته وينهل من كريم أخلاقه وحنان أبوته.
مشيراً إلى أسلوب والده الفذ في تربيته لأبنائه، في حديث أثار الشجن في القلوب المشتاقة لمثل هذا الأب الجليل.
ثم تحدث أ. أحمد الغصون عن والده بوصفه قاضيا من قُضاة الأمة النجباء، الذي نذر نفسه لخدمة الناس؛ إذ عُرف بحلمه وكرمه وعفوه، وقد تميز في قضائه بحرصه على سرعة البت في الخصومات دون استعجال أو تأخير.
ثم تكلم د. طارق الخويطر عن الإمام الغصون - غفر الله له - بوصفه معلما وإماما فاضلا، تتلمذ على يديه العديد من طلاب العلم؛ ما أذكى في النفوس عبق الشوق لهذا العَلم المعلم الذي كان مثالاً في نبله وحبه لتلاميذه.
وبعد أن باح الإخوة الكرام بشيء من ذكرياتهم العطرة مع الشيخ الراحل انتقل الحديث إلى بنات الشيخ - طيب الله ثراه -؛ حيث استهلت الدكتورة منيرة الغصون حديثها عن حرصه على تعليم المرأة؛ إذ كان من مؤيدي تعليم المرأة منذ بداياته الأولى في مجتمعنا، معللة ذلك بأن والدها كان يرى للمرأة حقاً في التعلم تماماً كالرجل.
ثم استشهدت بمطالبته بافتتاح مدرسة للبنات أسوة بالبنين في مدينة شقراء، حينما عُيِّن قاضيا فيها؛ حيث لم يكن فيها مدارس للبنات.
وانتقل الحديث إلى د. حصة الغصون التي تحدثت عن كفاح والدها في العلم والقضاء رغم فقده لبصره، لكنه كان بصير القلب، مجاهدا وصبورا.
ثم تابعت أ. فوزية الغصون حديث أختيها عن والدها مثيرة بذكرياتها الشيقة شجونا لروح الوالد الحنون والأب الرؤوم.
وقد صحب اللقاء عرض وثائقي عن حياة الشيخ ابن غصون، وقام على العرض فريق تقني مكون من: أ. بان الوهيبي حفيدة الشيخ، ود. ليلى القحطاني. كان اللقاء فريدا وذا لون فذ أذهل القلوب وأذكاها همة وأوقدها حماساً للتأسي بسيرة هذا العَلَم الجليل؛ حيث تاهت القلوب بين عبق الغصون ولذة الثمر؛ ما أصبغه لونا (غُصونيا) فاتنا للأبصار والبصائر.
ابن باز
وفي يوم الأحد الثامن والعشرين من شهر ربيع الأول كانت القلوب على موعدٍ مع أسرة الإمام الراحل عبدالعزيز بن باز - رحمه الله -.
وقد حظي اللقاء (البازي) المبارك بجموع غفيرة من النساء اللاتي قادهن حب هذا الإمام العظيم والعالم الجهبذ.
وابتدأ اللقاء مع الشيخ الفاضل عبدالمحسن بن عثمان الباز، مدير مؤسسة ابن باز الخيرية، متحدثاً عن الإمام الراحل بوصفه معلما ومربيا، نقش محبته في قلوب طلابه، ورسَّخ في ذاكرتهم كثيرا من علومه الفياضة.
كما سلَّط الضوء على إنسانية هذا الإمام النبيل، من إحسانه للفقراء، ودعمه للمبرات، ومساعدته للشباب الراغبين في الزواج؛ حيث كانت هذه البوادر الكريمة من سماحته - رحمه الله - اللبنة الأولى لمؤسسة الشيخ ابن باز الخيرية.
وفي ثنايا حديثه تطرق إلى جهود ولاة الأمر - حفظهم الله - الذين كانوا من داعمي هذه المؤسسة ومباركيها.
ثم تحدثت الأستاذة الجوهرة الباز كريمة الشيخ - رحمه الله - عن والدها الراحل بوصفه أبا عالما زرع في قلبها وأسرتها حب الخير والإحسان.
ثم سردت الباز في ثنايا حديثها بعض القصص والمواقف التي مرت بها مع والدها - رحمه الله -.
وعندما انتقل الحديث إلى الأستاذة هند الباز كريمة الشيخ - رحمه الله - كان الحديث عن إمامنا ذا صبغة تلامس حاجة الناس لمعرفة سير النوابغ في بيوتهم والتأسي بهم.
فقد تحدثت الأستاذة هند الباز عن والدها بوصفه أبا رؤوما وحنونا وتربويا فذا أحاط الأسرة جميعها من أبنائه وبناته وزوجات أبنائه بحرص وعناية بالغَيْن.
كما أشارت إلى بعض القصص التي كانت تؤكد فيها أن رب الأسرة هو الربان الذي يقود عائلته إلى بر الأمان الدنيوي مع الفلاح في الآخرة.
وكانت ضيفة الشرف في ذلك اللقاء حرم الإمام الراحل، الوالدة أم أحمد الباز.
ابن حميد
وفي يوم الأحد الثاني عشر من شهر ربيع الآخر كانت ساعة الذاكرة تعود بالزمن إلى الوراء لتقف في عام 1372ه وتسلط الضوء على حياة رجل من نوابغ القضاة النجباء هو الشيخ عبدالله بن حميد في لقاء أسري حميم مع كريمة هذا الإمام الراحل.
وقد ابتدأ اللقاء مع أ. الجوهرة بنت عبدالله بن حميد في أمسية مدهشة يلفها الصفو والإخاء؛ فانطلقت - حفظها الله - في الحديث عن والدها - رحمه الله - بوصفه أبا رؤوما وقاضيا فقيها وعالما نابغا ومسددا بأسلوب جميل أدهش الحاضرات وزادهن شغفاً بسيرة هذا القاضي الفقيه.
وقد أشارت الحميد في حديثها إلى قصص عن والدها في مجالات عدة.
إذ كان للشيخ غفر الله له درر من القصص التي تسطر للإنسانية صورا من النبوغ العلمي والنباهة والذكاء؛ ما يجعل منه قدوة لكل طالب علم.
كما كان للشيخ - رحمه الله - مواقف صادقة مع رجال الدولة الذين أحبوه وآثروه؛ فكان له شأن رفيع عندهم، حتى أن الملك عبدالعزيز - رحمه الله - قال عنه: «لو كنت جاعلا القضاء والإمارة في يد رجل واحد لكان ذلك الشيخ عبدالله بن حميد».
وقد ظل هذا الإمام الراحل من العلماء الصادقين والمخلصين لدينه وعمله ووطنه؛ ما زاد من ثقة أولي الأمر فيه؛ حيث سلموه زمام المهام الكبيرة في القضاء والرئاسة العامة للإشراف على المسجد الحرام وغيرها من المهمات.
السعدي
وفي يوم الأربعاء الحادي والعشرين من شهر جمادى الأولى كانت الرياض على موعد مع سيرة الشيخ المفسر عبدالرحمن ابن سعدي وعائلته (آل سعدي) الذين تجشموا عناء السفر من المنطقة الشرقية مُلبين دعوة مؤسسة مكة بمدينة الرياض؛ حيث توهج نور تلك الأسرة الكريمة امتداداً لضوء علامة عنيزة الشيخ المفسر عبدالرحمن بن سعدي - رحمه الله - بريق العلم ووميض الأدب.
وبعد أن أمست تلك الرواحل بمؤسسة مكة بدأت ترسم لوحتها السعدية لتدهش الحاضرات بأجمل لوحة تذكارية تعبر عن روح الإمام الراحل عبدالرحمن بن سعدي - رحمه الله -.
كان اللقاء السعدي ثلاثي السرد شائق المحكى شاجن الذكريات؛ إذ تشاطرت حفيدة الشيخ الراحل الأستاذة لطيفه وقريبتاه بسمة ونجمة الحديث عن الشيخ الراحل قبل نصف قرن، الذي خلّف في نفوسهن شيئا من عبق أنفاسه في كتبه ومجلداته؛ ما جعل منه قدوة لهن ورمزا وفخرا واعتزازا بانتسابهن إليه.
والحق أن هذا الإمام الجليل - رحمه الله - لم يكن قدوة لهن فقط؛ بل هو من قُداة هذه الأمة ونوابغها الماجدين.
وكانت ضيفة الشرف في ذلك اللقاء ابنة الإمام - رحمه الله - نورة بنت عبدالرحمن بن سعدي، التي تحدثت عن والدها الراحل الذي تنورت من علمه وفكره، كما عاصرت من حياته العلمية والاجتماعية ما جعلها تورد ذكريات مضى عليها نصف قرن، لكنها في روايتها الرائعة لتلك الحكايا تُخيل للسامع بأنها حدثت قبل نصف ساعة، وما أجمل تلك النوادر التي سمعناها من الحبيبة نورة (النيرة)، كما كان والدها يناديها كناية عن إنارتها بالبيت.
وقد تخلل اللقاء عرضٌ وثائقي من عمل أسرة الشيخ السعدي يوثق شيئا من حياة الراحل وبعضا من أحاديث معاصريه وشجون أولاده وأحفاده وكلمة للأديب الدكتور إبراهيم بن عبدالرحمن التركي أشارت خلالها إلى أهمية سير هؤلاء الرموز الأجلاء.
الجدير بالذكر أن المؤسسة تتأهب للاحتفاء بأسر العلماء: عبدالعزيز المسند وعلي الطنطاوي وعبدالله الخليفي - رحمهم الله - لتكون بذلك قد وصلت إلى نهاية الجزء الأول من البرنامج، ولعل أسر مثقفينا الراحلين يتبنون هذا النهج المتميز.
ريم الصويلحي - الرياض