قبل أن نتعرف على الكون الشعري لـ»قصائد الهجرة الثالثة» في تجربة «العلي»، الممتدة ما بين عامي 1998م وحتى اليوم، والتي كتبت ما بين «برمانا» في بيروت، وبين الدمام، سنشير وباقتضاب تقتضيه مساحة الكتابة، إلى أهم مرتكزات الحداثة الشعرية العربية التي أصبحت من المسلمات النقدية والبحثية، من أجل تحديد مناطق تقاطع «العلي» معها وافتراقاته عنها، سواء في مرحلة الهجرة الثانية أو الثالثة!
يوضح الدكتور سعد الدين بن كليب في كتابه المعنون بـ»وعي الحداثة» (دراسات جمالية في الحداثة الشعرية) أبرز تلك المرتكزات المتمثلة في: الموسيقى، الرؤيا، الأسطورة، تشكيل النموذج الفني، الرمز، والصورة الشعرية.
الموسيقى والرؤيا
وإذا كانت «الموسيقى» و(كسر عمود الشعر) هي أبرز معالم تمايز قصيدة التفعيلة عن سلفها العمودي، والتي انحاز إلى كتابتها شاعرنا منذ عام 1965م كاستجابة لتطور وعيه الفكري والجمالي الباحث عن آفاق الحرية وطرائق تحققها، فإن الحداثة الشعرية العربية لم تخطّ ملامحها المختلفة إلا من خلال «الرؤيا» وعملها على بناء جماليات التشكيل الفني، المغاير لبلاغة خطاب العمود الشعري، ومقوماته.
يقول أدونيس عن حداثة القصيدة بأنها «رؤيا»، و الرؤيا بطبيعتها قفزة خارج المفهومات السائدة. هي إذن تغيير في نظام الأشياء، وفي نظام النظر إليها. (زمن الشعر - ص10).
وفي هذا الصدد يقول محمد العلي: «الذي لا يملك رؤية لا يملك حداثة.. ونحن إذا جردنا الإنسان من الحداثة.. جردناه من الرؤية ومن الخصوصية..». ويمضي بعد ذلك للتفصيل بالقول: «الحداثة ليس لها تعريف محدد، ولكنها سياق.. معنى هذا السياق أو جوهره: التجاوب مع إيقاع الحياة والتجدد مع إيقاع التجاوز إلى الأفضل». (محمد العلي شاعراً ومفكراً - ص 579).
كثير من النقاد العرب يعتبرون الشعر العمودي الكلاسيكي شعر «رؤية» من حيث أنه ينزع إلى المحاكاة... محاكاة الواقع أو المناسبة أو في تمثل سياق بلاغة موضوع القصيدة وتناظرية البناء، فيما يذهبون لتوصيف شعر الحداثة بشعر «الرؤيا»، لاهتمامه بابتكار الأنموذج المختلف، وفي تعبيره عن جدلية علاقة الذات المبدعة بالعالم وبالشغف الحي بالرنو إلى أو التبشير بالمستقبل الأجمل.
وفي ذلك يقول د. غالي شكري: «إن كلمة «الرؤيا» إذا شئنا الدقة في التعبير والتاريخ، لا تنطبق أبعادها إلا على هذا الشعر الحديث» (شعرنا الحديث إلى أين - 13 - د. بن كليب).
فالحداثة عند أدونيس هي «رؤيا» ويعتبرها مرادفة للموقف حيث يقول: «إن الموقف أو الرؤيا هو الأساس الجوهري في الحداثة»، أما محمد العلي فيرى أن الحداثة «رؤية»، ويربطها بالموقف حيث يقول: مصطلح «رؤية» يعني لغوياً المشاهدة بالبصر.. ولكن مفهومها قد أخذ بالانزياح، حيث تعدّت نطاق الحس إلى نطاق التصور، أو ما يرادف الإيدولوجيا في تعبيرنا الحديث بشكل عام (الرؤية والموقف - العلي شاعرا ومفكرا - ص 322).
فلماذا يستخدم «العلي» مصطلح «الرؤية» بدلاً من مصطلح «الرؤيا» الذي أشاعه «أدونيس» للتعبير عن قيم عليا متشابهة التكوين لدى كل منهما؟
حول هذه المسألة، نشير إلى أن الاختلاف بين النقاد والشعراء حول «الرؤيا» في شعر الحداثة يأتي من منطلقات فكرية وإبداعية متعددة نشأت حول علاقة الوظيفة الجمالية للإبداع بحراك الواقع الاجتماعي والسياسي واستهدافاتها.
ففي حين كانت «الرؤيا» المعنية بالتغيير عند الناقد والشاعر والمفكر الكبير «أدونيس» وتيار مجلة «شعر» وسواهم، ترى تحقيق الحداثة الشعرية في توظيف فاعلية الكشف العرفاني والصوفي في أبعادها الميتافيزيقية، إلا أنها قد أخذت بعداً مغايراً عند رموز تيار «الواقعية» الذين يرون الشاعر جزءاً من صراعات الواقع، وإحالاته عليه، من أجل التجاوز نحو الأفضل.
وفي هذا التوجه نستحضر رأيين - على سبيل التمثيل لا الحصر - أولهما عبر عنه د. أحمد يوسف داوود بقوله: «إن الإبداع لا يكون بالرؤيا/الإلهام وحسّ النبوة، وإنما بالرؤية / المعرفة». (اللغة الشعرية ص 254- د. بن كليب).
ويساند ذلك التوجه ما ذهب إليه د. فاضل ثامر من أن تجربة «العذاب» في رؤية الشاعر الحداثي «ليست عذاباً فردياً مترفاً، بل هي عذاب له أرضيته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.. وأنه لا يستسلم لإغراءات اللغة/الرؤية التي بشرت بها القصيدة الأدونيسية...بل تظل لغته - بالمعنى الواسع- حية ودنيوية، ذات جذر أرضي عميق». (موقع الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق).
لذلك يحدد «العلي» موقفه من (الرؤيا / الكشف)، و(الرؤيا/ اللغة)، بعدم تمثلها في قصائده، وذهابه إلى استخدام مصطلح «الرؤية» في كتاباته الفكرية وحواراته الثقافية بدلاً عن مصطلح «الرؤيا»!
الأسطورة
احتفى الشعر الحديث باستخدام الأسطورة وتوظيفها في النص، ويرى كثير من النقاد أن الحداثة الشعرية لم تبدأ بكسر عمود الشعر وإنما تم تدشينها باستلهام الأسطورة لتعميق مفاعيل الرؤيا، من أجل أسطرة الواقع وخلخلة النمط البلاغي التقليدي وما يتعلق به من رؤى ومفاهيم وآليات تعبير جمالي، ويقول «بروتون» في ذلك المنحى «إن الشعر تعبير عن استرداد المخيلة البشرية لحقوقها، وليس جنساً أدبيا خاضعاً لقوانين مدرسية «(www.bn-arab.com)، كما أن الدكتور علي البطل في كثير من دراساته يرى أن «اللغة الشعرية هي في الأصل لغة أسطورية».
أما «العلي» فإنه لم يوظف الأسطورة ولا البعد الأسطوري في قصائده، ولعل ذلك يعود إلى أسباب عدة منها:
دراسته المتخصصة في الشريعة واللغة العربية، والتي لم تحفل بدراسة الأسطورة أو الاهتمام بدلالاتها، إن لم تكن ضدها أصلاً، ولعل بدايته المتأخرة في كتابة قصيدة التفعيلة منذ عام 1965م، قد أتت في مرحلة عودته إلى المملكة التي تفتقر ساحتها الثقافية إلى المدونات الأسطورية وثقافتها، وثالث الأسباب يكمن في ظني في نهج «الواقعية» الشعرية الذي انحاز إليه شاعرنا فجعل هموم الحياة المعاشة وصراعاتها في كافة البنى المتشوفة إلى أفق المستقبل الحضاري، مكوناً كلياً في تشكيل نصه وفي استهدافاته أيضاً.
ولعلي أميل إلى أن عدم استخدام شاعرنا للأسطورة ورموزها يأتي - أولاً - من غلبة انفعال «العلي» الآني بالحالة الشعرية، وهو ما يجعله مختلفاً في تدفقه الشعري الانفعالي عن طبيعة الحالة الشعرية التركيبية والملحمية التي تقتضيها كتابة النص الذي يتقاطع مع الأسطورة أو مناخاتها، حيث يشير إلى ذلك في حوار له مع جريدة الرياض بقوله: إنني شاعر «انفعالي».. أي أن الشعر عندي ليس عملية ذهنية أو «قصدية».. إنه موجة انفعالية وحسب».
كما يأتي ثانياً من بعد آخر أشد غوراً في ظني، وهو الحساسية الفنية لشاعرنا، والتي تأنف من التكرار والتقليد، ويسندها في ذلك ما يتمتع به الشاعر من مقومات ثقافية وفكرية خصبة تعينه على الذهاب إلى أفق الابتكار والتفرد.
بناء النموذج الفني
لعل ما ألمحنا إليه آنفاً يفسر قلّة كتابته لقصائد تشكيل «النموذج الفني» وفق أنماط شعر الملحمة أو القناع أو الدراما في تجربة الحداثة الشعرية، بيد أنه قد أبدع في تشكيل «الحالة الشعرية»، لتكون بديلا موازيا لذلك النموذج، مع احتفاظ تجربته بحرارة الانفعال، وعفوية التدفق، وطزاجة التعبير وكثافته، لتكون حاملاً جمالياً لتجربة غنية بمخزونها الثقافي والحواري والتأملي في اشتباكها مع الحياة، من أجل خلق حالة انفعالية موازية ومؤثرة في مخيلة ووجدان مستقبلها.
الرمز
حدد «العلي» وظيفة الرمز في القصيدة بما يلي: «الرمز في رأيي مجاز.. واصطلاح بلاغي.. وطريقة من طرق التعامل مع اللغة.. والمجاز إذا أعيد استخدامه أصبح مكروراً ويحتاج إلى رمز جديد».
« الرمز أن يتعامل الشاعر مع كلمة ما أو كلمات بطريقة خاصة وتركيب خاص لإيصال مفهوم خاص....»
«...الرمز طريقة إبداعية في تحويل الكلمات من معناها القاموسي إلى ما يستطيع الشاعر أو المبدع الوصول إليه.. مع وصولها إلى قارئه المتعامل مع السياق...» (العلي شاعراً ومفكراً ص 582).
ولذلك نجد كثافة لافتة في اشتغاله على تحويل المفردة إلى رمز في معظم قصائده، إلا أنه لم يستخدم الرمز الأسطوري ولا التاريخي، كقناع أو كحامل لدلالة كلية في شعره. وبديلاً عن ذلك قام بتشكيل رموزه وأساطيره الخاصة، من الطبيعة (البحر،الماء، الصحراء، الخ..) كما نحت رموزه المركبة من اللغة أيضاً، واكتفى باستدعاء رمزية بعض الشعراء تحديداً، في كثير من التفاتاته صوب الماضي.
الصورة الشعرية
الصورة هي جوهر العملية الإبداعية الشعرية، وحيث انبنت في تراثنا الشعري على ثنائية الفكرة والتعبير عنها بالصورة، التي تحاكي الواقع أو المناسبة أو الغرض الأليف، إلا أنها قد أخذت موقعاً مغايراً في تجربة الحداثة الشعرية.
ذلك أنها هنا لم تعد تحيل على الصورة الجزئية في البيت أو الجملة الشعرية، وإنما أصبحت هي الصورة الكلية (لرؤية / رؤيا) النص، وإحالاته الخارجية، وآفاق دلالته، فخرجت من أسر المحاكاة إلى فضاء حرية الخلق والابتكار وأسطرة الواقع، والتشوف للمغاير المدهش في جدل التعبير عن العلاقات المتشابكة بين الذات وعالم تفاعلها الكلي.
وفي هذا الصدد يرى د. نعيم اليافي «بأن الصورة في الشعر الحداثي هي أداته في الخلق والتصوير، وأنها قامت على مهاد مكونات الإطار المعرفي والفلسفي والثقافي والاجتماعي، بحيث تمثل المبدع وثقافته ورؤياه، كما تمثل عصره». (الصورة في القصيدة العربية المعاصرة - د. بن كليب).
و هذا ما يهيؤنا للقول بأن تجربة الحداثة الشعرية قد فتحت الباب على تعددية النموذج الفني، بحيث يغدو كل نص شعري تجربة جديدة ومختلفة عن سياقها الراهن، ومغايرة لجذورها التاريخية.
ولعل أجمل ما قيل عن ملامح النموذج الفني وتشكيل الصورة الشعرية في تجربة العلي ما كتبه د. محمد الشنطي، في دراسته الضافية عنه بعنوان «أفقية السرد وكنائية التمثيل وبناء النموذج».
وسوف ألخص هنا - لضيق المقام - بعض منطلقاتها، حيث يرى أن بنية النص الشعري عند شاعرنا، تنهض غالباً على المزاوجة بين خصوصية الدلالة وعمومية التجربة، واستخدام الثنائيات لتفجير المفارقة، وفي تجاوز المستوى الغنائي والتقرير الحسي، إلى توظيف فاعلية التداخل النصوصي، أو التضمين بالاستعارة، واستدعاء النماذج التراثية، والإفادة من آليات السرد والتحول، وبناء درامية النص حول الجدل والحوار والاستهلال بالسؤال والافتراض، ليبتعد النص عن الموقف الرومانسي والنبرة الغنائية. (المرجع السابق - ص 141-142)
الابتكار والتفرد
شاعرنا إذن لم يفد من معطى جاهز تمثل في الأسطورة أو الرموز الأسطورية أو التاريخية، أو تلك التي ترمزها الحياة، وإنما اتكأ على ذاته في ابتكار أساطيره ورموزه الخاصة.
وقد ألمح صالح الصالح في دراسته عن شعر العلي إلى ملمح تشكيل أسطوري مكثّف في هذا المقطع من قصيدة «آهٍ.. متى أتغزل»:
« يا زمن العوسج المتبرج
قد روّضتنا الصخور التي كلما اقترب السفح
فرّت إلى البدء
لكننا سنروّضها «
ليتساءل الناقد: أليست هذه أسطورة تنقض أسطورة «سيزيف»؟
(محمد العلي - دراسات وشهادات - ص 126)
وقد توقف د. شاكر النابلسي في كتابه «نبت الصمت» الصادر في عام 1992م، أمام خمس منحوتات شعرية رمزية وردت في قصائد العلي - حتى ذلك التاريخ - وهي «جواد الليل، طائر الوهم، الأصيل الشهي، جواد البحر، ودمية العِبَر»، ورأى أنها مليئة بالرمز والكناية والأسطورة، بل إن الرمز فيها يكاد يطغى على باقي الصيغ الجمالية الأخرى، مما يتيح للمتلقي خيالاً واسعاً وبلا حدود.
كما يورد د. النابلسي في نفس الدراسة إحصائية توضح كثافة الرمز ودلالاته وارتباطه بالبيئة الجغرافية والاجتماعية في حياة الشاعر، ومن أبرز تلك الرموز: «البحر، الماء، الريح، النهر، النخل، المحار، الفجر، اللآلئ، الكأس، الجواد، المطر، الرمل». (محمد العلي - دراسات وشهادات - ص 43).
(ولسوف نرى في قراءتنا لقصائد الهجرة الثالثة رموزاً ومنحوتات وتشكيلات حالات فنية أخرى كثيرة ومختلفة عنها).
لكل ذلك نرى بأن «العلي»، في فضاء مرتكزات الشعرية الحداثية العربية، يتقاطع معها ويفترق عنها، مختطاً نهجه الخاص في إنتاج القصيدة، وفي تشكيل صوره الشعرية المتفردة برموزها وأساطيرها الخاصة ونماذجها الفنية المختلفة، التي تغني فضاء الشعر والشعرية، بابتكاراتها وألقها، وأناقتها اللغوية.
الدمام