للحكاية الشعبية سحر عجيب، وجاذبيتها اجتازت حواجز الزمن. في داخلها أسرار دفينة، وحكم عميقة تجعلها تسبق وقتها، وإن ظلت في عالم كان يا ما كان. هذه حكاية شعبية قديمة من التراث السعودي الحجازي عنوانها: (العظمة)، وسأوردها ملخصة، وهي طويلة، وبالفصحى، وهي بالعامية الحجازية. الحكاية ليست مهمة في ذاتها أو للتسلية فقط، بل تكمن أهميتها في تداعياتها ومفاهيمها المتوالدة. تقول الحكاية:
كان يا ما كان
كان هناك تاجر يتمنى العيال، وفي يوم رزقه الله ببنت. فقال «من شدة خوفي عليها»: «لن أتركها تعيش على وجه الأرض». ثم أمر بحفر سرداب تحت الأرض، وجهـّزه وفرشه، ونقل ابنته إليه وعمرها أربعة أشهر.
عندما كبرت البنت أمر التاجر الخدم قائلاً: «إياكم أن تخطئوا يوما ما وتقدموا لابنتي مع طعامها سكينة أو ملعقة، أو حتى عظمة».
ومرت الأيام والبنت تكبـُر، فأحضر لها المعلمين والمربين في سردابها، وظلت تسمع عن الشمس والقمر، لكنَّ عينيها لم ترَ سوى نور الشموع.
ذات يوم أعد الطعامَ طباخٌ جديدٌ لم يعرف بالأوامر، ووضع مع الأكل عظمة. حين رأتها البنت استغربت منظرها، وظلت تحملها وتضعها وتتأملها، ثم غسلتها وخبأتها تحت مخدتها. في الأيام التالية راحت تخربش بها وتنحت، وتكتب بها على الجدران، وقليلاً قليلاً حفرت فتحة صغيرة كبرت كل يوم وتوسعت.
وفي يوم ما رأت البنت من الفتحة.. نورًا وهواءً. قالت: «لماذا أبقى في هذا المكان، والدنيا في الخارج تملؤها الحياة؟»..
تحمست وعملت بجد أكبر حتى زحزحت حجرًا، وتمددت في الفتحة وزحفت إلى الخارج. خرجت ورأت الدنيا على حقيقتها، وأحست الأرض كبيرة وواسعة؛ فمشت ومشت ومشت.
بعد فترة جلست على طرف بحيرة لترتاح في ظل شجرة، ثم تسلقتها وجلست تتفرج من الأعلى وهي فرحة بمنظر أفضل.
من بعيد رأت رجالاً أقبلوا ليسقوا خيولهم من البحيرة. عندما رأت الخيل ظلها على سطح الماء رفضت الشرب. رفع الأمير رأسه ورآها، فسحره جمالها، وقال لها: «انزلي».
نزلت، وأعجبته أكثر، فعرض عليها الزواج والعيش معه في أرضه وحقوله وبحيراته.
وافقت وعاش معها في التبات والنبات، والسماء غطاهم والأرض بساط.
النص تحت المجهر
الحكاية مسلية، هذا صحيح، لكننا لو تناولناها بوصفها نصًّا قابلا للتأويل ووضعناها تحت مجهر المناهج النقدية لتبين لنا أنها تحتوي على طبقات من المعاني توارثتها الأمم على مر العصور؛ فالنقد الثقافي قد دفع بكل أشكال التعبير غير الرسمية إلى منصة النقد الرسمي، وأعتبر الحكايات الشعبية نصوصاً تسربت من أفواه العامة متخفية في شكلها البسيط فتفادت رسائلها الرصد والرقابة.
من المدارس النقدية التي تفيد من نص كهذا النقد النفسي الذي يتيح لنا الإصغاء إلى صوت النساء الجمعي، الذي صاغ هذه الحكاية وحملها في ذاكرته من جيل إلى جيل. شخصية الأب هي نمط أولي، أركيتايب، تقف في مواجهته أولئك النسوة صانعات الحكي وراوياته مجتمعات يحملن أحلاماً دفينة بالخروج من مدافنهن التي وُضعن فيها بدافع الخوف عليهن والخوف منهن. كأن الحكي هو الدافع الغريزي للهروب من واقع قاس مكبـِّـل، وهو المتنفس لأحلام مكبوتة ورغبات متحرقة للهروب إلى فضاءات أكثر رحابة.
مكونات الحكاية
ويعطينا النقد البنيوي آليات النظر إلى الجزئيات الحكائية؛ فالأب والابنة والسرداب والعظمة والحفر والخروج والنور والشجرة والأمير والزواج هي اللبنات المكونة لهذه الحكاية، ويمكـّـننا النقد التفكيكي من فرز تلك العناصر وزحزحتها للوقوف عليها بوصفها مكونات تركيبية، وتأملها لاستقراء مراميها، ومن ثم إعادة تركيبها بأشكال أخرى للتدليل على معانٍ أشمل: في نظام أبوي تتمتع فيه السلطة الذكورية بالقدرة على التحكُّم في أقدار البنات، يتم دفن البنت وهي حية تُرزق، ثم إبقاؤها على قيد الحياة بمدها بأساسيات العيش من أكل وشرب وملبس، والقليل القليل من العلم، وهذه هي أوضاع النساء في كل المجتمعات الإنسانية حتى قرنين من الزمان، أوضاع تتحول فيها البيوت إلى مقابر للنساء، إلى سياجات تحظر تجولهن خارج الحدود المتاحة، وتقنن تحركاتهن، فيبقى الأمل والتطلع وطموحات النساء المعطلة مدفونة في حكاياتهن.
علامات النقد السيمولوجي
وفي ظل النقد الأسطوري يبرز لنا مشهد الوأد الجاهلي ودس البنات في التراب خجلاً وهواناً، والأب في هذه الحكاية كان قد بيّـت النية على الوأد المضمر والمتنكر في صورة السردبة، وعلى الرغم من توفير المأكل والمشرب إلا أن البنت ظلت مختفية عن الأعين، متوارية وكأنها عار أو نقيصة يعاب عليها الأب. والحكاية على طولها لا ترصد لقاءات بين البنت وأهلها، فهي في منفى عقابي لأنها ولدت أنثى. وتستدعي تجليات المنفى وسلب حق الحياة صوراً مشابهة لعذراوات قـُـدّمن قرابين للموت على فوهات البراكين الغاضبة، وفي خضم الأنهار الساخطة.
ثم تبرز أسطورة الكهف الأفلاطوني؛ حيث يقبع العبيد مقيدين بالسلاسل في الظلام ومن خلفهم ضوء خافت، وأمامهم على جدار الكهف تتراقص أشكال الحياة المشوهة. حين يترك أحد المساجين ظلام الكهف ينبهر بالنور في الخارج ويرى الحياة على حقيقتها، مضيئة وملونة وصحيحة. في سردابها تتلقى البنت علماً علِـمَهُ غيرها، وتبقى هي جاهلة بالتجربة التطبيقية المباشرة. حين خرجت من الحفرة اكتشفت ضعف علمها الظلالي، وعرّضت حواسها للتجربة المباشرة؛ فتذوقت الحقيقة بنفسها.
وتتوالى العلامات التي يستقرئها النقد السيمولوجي فنرى في السرداب باطن الأرض، والأرض أنثى، وسردابها رحم تولد منه البنت إلى النور، فخروجها ولادة ثانية، أو هو بعث من ممات. وقد يرى البعض أن خروج البنت يفقد الكثير من وهجه وقيمته؛ لأنها لا تذهب بعيداً ولا تفعل شيئاً مختلفاً ولا تحقق فوزاً بانتصارات سوى الزواج الذي سيعيدها بالتالي إلى كنف الذكورة مرة أخرى؛ حيث سيكون القصر أو البرج - كما هو معروف في كثير من الأساطير - سجناً من نوع آخر.
وعي نسوي متقد
لكن هناك سيميائيات أخرى في الحكاية تثبت عكس هذه الرؤية؛ فالبنت تتجول حيث تشاء، تتحرك قدماها في كل اتجاه دون خطوط سير مرسومة لها، تمشي في أماكن لا اسم لها ولا سمات طاردة. وتمثل البحيرة/ الماء مرحلة اغتسال وتطهير، وهي أيضاً رمز للعبور. كما تبدو دلالة الشجرة واضحة في سياق الحكاية؛ فهي شجرة المعرفة التي تتسلقها وكأنها تصعد درجاتها حتى تصل إلى قمتها، فتكتمل معارفها. حين تنزل البنت من أعلى الشجرة لتقبل عرض الزواج من الأمير كانت تملك القرار وحق الاختيار، تتزوجه فتكلل نجاحاتها بأمير يمثل قمة الهرم الاجتماعي؛ فهو هنا جائزة نجاح وليس مجرد زوج. وهذه الحكاية، خلافاً لكل الحكايات الحجازية، لا تنتهي بالجملة المعهودة: وعاشوا في التبات والنبات، وخلفوا صبيان وبنات، بل تبتكر لنفسها نهاية تقول: وعاشوا في التبات والنبات والسماء غطاهم والأرض بساط. وفي هذه النهاية كناية واضحة عن استمرارية الحرية وانفتاح الطبيعة لحياة متحررة من القيود التقليدية.
يجد النقد النسوي في هذه الحكاية البسيطة مادة ثرية تدلل على الوعي النسوي المتقد رغم كل العوائق والقيود، وعي ينتظر الفرصة المواتية لينطلق ويكبر كمارد محبوس في قمقم. وهذه الحكاية تعمل كمرشد ودليل، بل هي رسالة توجهها الجدات للحفيدات تحفزهن لرفض الواقع المفروض عليهن والجاثم فوق صدورهن، وتحثهن على تصيد الفرص للتسلح بآليات الخروج من السراديب إلى معمعة الحياة الكاملة، دون وسطاء أو فلاتر. ومن المنظور النسوي تتحول العظمة إلى أداة ذكورية محرمة على النساء، لكنها تتسرب إلى البنت بشكل غير مشروع، فتمسك بها وتحيلها إلى سلاح تخرج به إلى عالم الذكور.
أيقونة العظمة
ومن الملاحظ أن الحكاية تغفل ذكر الأم تماماً، وكأنه لا وجود لها، بل إنها تخلو تماماً من النساء؛ فالبنت محاطة بالذكور بدءا من الأب، ثم الطباخ والخدم والمعلمين والمربيين والأمير ورجاله. كان لا بد للحكاية من قتل النمط النسوي التقليدي والتخلُّص من خوفه المتوارث. لو ظهرت الأم لشكَّلت عاملاً تراجعياً، ولغرست في ابنتها الذعر والخنوع وانعدام الثقة وعطلت انطلاقها، أما والرجال من حولها، فقد تحلت بالجرأة والإقبال والنزوع إلى المغامرة.
العظمة علامة أيقونية في يد البنت، هي آلة ذكورية اختراقية تفتح بها كوة وتنبثق من خلالها. ومن الواضح أن الحكاية تقصد أن يكون السلاح في يد البنت عضوياً حيوياً؛ لذا لم يضع الطباخ مع الأكل أداة حادة كالسكين أو الملعقة تعينها أكثر في عملية الحفر. الحفر بدأ نقشاً على سطح الجدار ثم تعمق شيئاً فشيئاً كلما ازداد إصرار البنت، حتى تهاوى كالقشور أمام عزيمتها ومثابرتها. منذ أول خدش في الجدار بدأت سلسلة الخيارات، وتوالت قرارات البنت الانفرادية.
لكن العظمة أيضاً هي القلم الذي تكتب به على الجدران، فالكتابة فعل قدري، وأقدارنا مكتوبة في لوح محفوظ، وقد علمنا ربنا ما لا نعلم بالقلم. بهذا القلم/ العظمة كتبت البنت مصيرها وخطت مسيرتها، ثم خرجت إلى حيث النور والهواء، ترى وتتنفس، وتملك زمام أمورها دون رقيب أو حاجز، تحركت بعيداً عن سردابها وقررت عدم النظر إلى الخلف أبداً، فمسيرتها تقدمية لا عودة فيها إلى الوراء.
كل معرفة حقة هي انتقال من الظلمات إلى النور، هذا هو سر الحكاية الذي مررته الجدات للحفيدات، سر الحرية الذي يحقق الذات، سر الكتابة. ومن الأمثال الشعبية الحجازية هذا القول البديع: «إللي في يده دواية وقلم، ما يكتب نفسه شقي». لذلك كتب الذكور على مر العصور سطوراً وسطوراً عن تفوقهم وإنجازاتهم، سجلوا انتصاراتهم ونظموا الحياة بما يوافق أهواءهم، سعداء كان المدونون وبأيديهم أقلام وأحبار باعدوا بينها وبين النساء المسردبات، وكتبوا في غيابهن - على الهوامش - عن ضعفهن، ونقص عقولهن، وكيدهن، وخياناتهن.
صلابة قلم
الحكاية في مجملها حلم نسائي جمعي، هي استشراف لمستق بل تتملك فيه المرأة ناصية القلم وتغادر ظلمات الغياب، وقد جاء ذلك اليوم، وأصبحت للمرأة دواية وقلم، فهل كتبت نفسها سعيدة؟ الدفن موت والكتابة أثر ودليل على الوجود. تكتب المرأة لتثبت لنفسها وجوداً، وهي تسجل حضورها وتوضح معالم ذاتها وتظهر نفسها كإنسانة تتنفس وتفكر وتعبر. بلا كتابة تبقى المرأة محكومة بالمحو والنسيان، واليوم ما عادت المرأة شهرزاد مكررة تراوغ الموت بالحكي، بل صارت تجابهه بصلابة القلم.
بعد خروج البنت من سردابها لم تأتِ الحكاية على ذكر العظمة، لم توضح إن كانت تركتها في السرداب، أم حملتها معها كسلاح لحفر جدران قادمة. لكن الخروج في حد ذاته هو فتح لاحتمالات واختيارات شتى، ولمجالات أوسع تمكنها من انتقاء أسلحة أخرى تتناسب مع طبيعة كل جدار، فهنا ريشة وهناك حرف، وهنا صوت وهناك كلمة. ها هو حلم الجدات الدفين يتحقق على أنامل المرأة الكاتبة التي تعي ثقل مهامها الكتابية، وتعرف جيداً أنها تدون بالقلم تاريخ سعادتها على وجه الأرض.
جدة
lamiabaeshen@gmail.com