يجنح ابن تيمية - كما سلفت الإيماءة إلى ذلك - إلى توهين ذلك الضرب من أقيسة المنطق وذلك لاحتوائها على زخم من الإسهاب الذي ربما أفقدها ما يفترض أن تتوفر على ملامحه من الحيوية الديناميكية التي يتصاعد ضمورها في تلك الأقيسة على نحو لافت. بيد أن استكناه معالم واقع المقروء التيمي وتحسس ملامح مكوناته يفيدنا بأنه رغم ذلك التوهين ورغم ما يبدو أحيانا من تلك اللغة التصعيدية إلا أن ابن تيمية لا يرفض الاحتجاج بأقيسة المنطق واستقطاب آلياتها لتعزيز الأنظمة المفاهيمية وإنما يُعزى ما ينتابه من كبير تحفظ إلى توهم الاكتفاء بها وبالتالي الانكفاء عليها ومحو ما سواها من معابر الحقيقة التي «ليست مختصة بمنطق اليونان وإن كان فيه قسط منها» الرد على المنطقيين 383.
إن ابن تيمية لا يمانع من استدعاء تلك الأقيسة حتى في إثبات أصل الربوبية المتمثل في أن العالم لابد له من محدث في الجملة. وهذا الموقف منه لا ريب أنه يجلي قيمتي التجرد والإنصاف في أروع صورها. وسأشير إلى بعض الأقيسة المنطقية التي جرى تعاطيها تيمياً إبان إثبات توحيد الربوبية كالتالي:
أولا: إذا افتُرض أن ثمة واجبان، فإما أن يكون كل من طرفي المعادلة موجدا للموجود بكليته، وهذا مما يقضي العقل باستحالته لأن هذا ينفي عن الثاني فعل أي شيء جملة وتفصيلا فضلا عن أن يكون موجدا لكل عناصر المفعولات، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يلزم من هذا الجمع بين النقيضين فيكون كل منهما فاعل وغير فاعل في الآن ذاته!. وإن كان كل منهما يملك القدرة إبان استقلاله وفي حال تفرده فهنا لا مناص من أن «يتميز بمفعوله وهذا ما لم يكن، فلا بد وأن يكون خالق العالم واحد وهو المطلوب» الفتاوى 1-48.
ثانيا: في حال إثبات القدرة لواجبين وبنسبة متوازية وفي حالٍ من توازن الكفّة فإنه يلزم عقلا أن يكون كل منهما لديه قدرة على تكوين المفعولات إبان قدرةِ مُقابِلِه على ذات التكوين وهذا يحكم العقل بانتفائه «وعليه فيلزم ألا يقدر أحدهما إلا حال قدرة الآخر فيتلازمان فلا يكون لهما قدرة حال الانفراد وبذلك بطل التعدد ويثبت أن الخالق واحد وهو المطلوب إثباته» الفتاوى 1-48.
ثالثا: إذا افترضنا عقلاً قدرة كل واحد من الواجبين إبان انفراده واستقلاليته، تسنى له أن يفعل ضد فعل الآخر، وأن يروم عكس ما يتوخاه مثل أن يشاء تسكين ما يشاء الآخر تحريكه، أو تحريك ما يروم المغاير تسكينه وهذا يستحيل عقلا لأن تجسيد غاية كل منهما ممتنعة «لامتناع اجتماع الضدين فيلزم تمانعهما فلا يكون أحدهما قادرا وإذا امتنع كون كل واحد منهما قادرا حال الاجتماع وأن كلا منها مؤثر في الآخر فيكون الدور في الفاعلين وهو ممتنع» الصفدية 1-94.
رابعا: أنه إذا لم يكن للمحدث محدث فلا يبقى أمامنا عقلاً سوى افتراضين: إما أنه أحدث ذاته أو أنه حدث بلا محدث «أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون» وكلا الافتراضين يقطع العقل ببطلانهما بالضرورة وعلى هذا فقد «ثبت أنه لابد لهم من محدث وقس سائر المخلوقات عليهم» بيان تلبس الجهمية 11-165.
خامسا: الضرورة العقلية تحكم بأن المربوب المفعول لابد له من فاعل، والمصنوع الممكن ليس بمقدوره الاستغناء عن سواه الواجب فهو فقير بذاته مفتقر إلى من هو غني بنفسه فـ «كل مفتقر لابد له من غني وكل مربوب لابد له من رب والمخلوقات لابد لها من خالق» مجموعة الرسائل والمسائل 5-44.
وهكذا نلاحظ أن ابن تيمية يستخدم تلك الطرق العقلية والأقيسة المنطقية مؤكدا صحتها في سياق تأكيد توحيد الربوبية ولذلك يقول: «فهذه الطرق وأمثالها مما يتبين فيه أئمة النظار توحيد الربوبية هي طرق صحيحة عقلية» منهاج السنة النبوية 3-312. بيد أن الفرق - الذي ينبغي أن نستحضره وعلى نحو مستمر - بين ابن تيمية وبين الفلاسفة والمتكلمين أنه لا ينفي وجود سواها، ولا يصادر الفاعلية الثقافية لغيرها، ولا يقصر الأطر الدلالية عليها في بناء المشاريع العلمية، بينما هم «يحصرون الأدلة فيما ركبوه من أقيستهم» درء التعارض بين العقل والنقل3-333.
Abdalla_2015@hotmail.com
بريدة