لقد كان لطبيعة العصر الذي نشأت في أفيائه (التفكيكية) والملابسات التي أحاطت بنشأتها أثرٌ aكبيرٌ في (الاتجاهات) التي أسستها و(المبادئ) التي أرستها عند (الممارسة النقدية)، فقد كان الشك مسيطراً على كل شيء، حتى وصل إلى (النظام اللغوي) الذي يتم به التخاطب، ويكون به التواصل، وصارت (العلاقة) التي تُحدد صلة (اللفظ) بـ(المعنى) (غير يقينية)، وأصبحت (العلاقة) بين (الدال) و(المدلول) (مشكوكاً) فيها.
لقد كان (الدال) و(المدلول) في (النظام اللغوي) عند (البنيوية) يُمثلان معا (وحدة العلامة اللغوية)، لكن المسافة قد ابتعدت بينهما فيما بعد ذلك، حتى ظهر بينهما ما يشبه الفجوة أو الضعف، ولم يلبث أن يتحول ذلك إلى (شك) عند (التفكيكيين)، فاختفت (العلاقة) بينهما تماما، وتَحقق لديهم (اللعب الحر) للمدلولات، ومن ثمَّ (لا نهائية) الدلالة، وأصبحت بناء على هذا كل قراءة (إساءة) قراءة، كما أصبحت الفجوة حاجزاً بينهما يقاوم (الدلالة).
وإذا كان (الشكُّ) قد وصل إلى (النظام اللغوي) الذي هو أساس التخاطب، فإنَّ الأمور عند هذا المنهج تبدو أكثر تعقيدا؛ لأنَّ الإيمان بهذا (الشك) في علاقات هذا (النظام) يلغي الوظيفة الأصلية للغة، لأنَّ كلاً من (المبدع) و(المتلقي) لا بُدَّ أن يكونا متفقين على (نظام معين) للغة، ومصطلحين على (مدلولات) مُحدَّدة تَحمل (دالاتها)، والقول بعدم وجود هذه العلاقة أو (الشك) فيها يُحيل هذه اللغة إلى الموت، ويعجز أي شيء أن يكون حاضراً في (الدوال)، ويكون (المبدع) واهماً إذا ظنَّ أن باستطاعته أن يكون حاضراً بالنسبة إلى (المتلقي) فيما ينشئه من (نصوص إبداعية)، بل يصل الأمر إلى أن يعجز (المبدع) عن أن يكون حاضراً بالنسبة إلى نفسه، وبالتالي لا يُمكن أن يكون هناك تواصل بين (المبدع) و(المتلقي)، الأمر الذي سيؤدي بالضرورة إلى عبثية (الخطاب الأدبي) وعدم فائدته.
ولم يكن (التشكيك) عند (التفكيك) ليؤثر على العلاقات في (النظام اللغوي) فحسب، بل كان لتبني هذا المبدأ واستخدامه كإحدى (الاستراتيجيات) في التعامل مع (النص الإبداعي) أثر كبير في ظهور كثير من (المصطلحات) و(المفاهيم) التي كشفت عن تغلغل هذا المبدأ في دواخل هذا (المنهج)، وأضحت كل (التطبيقات النصية) و(الممارسات النقدية) التي تصدر عن (التفكيكيين) مرتبطة بِمبدأ (الشك) وكاشفة عن شدة تلبسه بالأساسات التي تشكل هذا المنهج النقدي، ولذلك فالمتأمل للعناصر التي تكون (التفكيكية) سيجدها مبنية في الأساس على (الشك) في (اللغة)، و(عدم اليقينية) في العلاقة بين (الدال) و(المدلول)، وإنكار قدرة اللغة على أن تحيلنا إلى أي شيء أو إلى أي ظاهرة إحالةً موثوقاً بها.
فمن المعلوم أن دراسة المعنى وتحقيقه تتضمن عناصر التفكيك جميعها: (موت المؤلف)، و(انتفاء القصدية)، و(المنظور اللغوي)، و(غياب مركز ثابت للإحالة)، و(اللعب الحر للدوال)، و(المراوغة)، و(التفسيرات اللانهائية)، و(الانتشار) أو (التشتت)، و(التناص)، و(التأجيل) أو (الإرجاء)، و(بدعة القراءة)، و(الغياب) و(الحضور)، و(فكرة الكتابة)، و(عدم انسجام النص).
ولذلك كان من الطبعي أن تكتسب (القراءة) عند أصحاب (نظريات التلقي) -وتحديدا عن (التفكيكية)- أبعادا تصل المبالغة فيها إلى (إلغاء المؤلف) ثم (النص) في نهاية المطاف، فإلى جانب المقولة الجديدة بأنه لا يوجد (معنى)، وأن كل (قراءة) ما هي في الحقيقة سوى (إساءة) (قراءة) أنكرت هذه المناهج وجود (المؤلف) باعتبار أن التسليم بوجوده يعني التسليم بوجود (معنى) قصد (المؤلف) توصيله، وأن وظيفة (الناقد) تَحديد (المعنى) على أساس (القصدية)، وبالتالي فإنَّ الاعتراف بوجود (المؤلف) يُمثِّل قيداً على (تفسير النص) يتمثَّل في وجود (معنى نهائي)، الأمر الذي سيؤدي بدوره إلى التسليم بوجود حقيقة أو حقائق مسبقة وثابتة، ومن ثمَّ فإنَّ (موت المؤلف) كما يقول Roland Barthes (رولان بارت) يعني رفض (وجود معنى نهائي) أو سري (للنص)، وهكذا تقودنا (فوضى القراءة) إلى (الشك) في كلِّ شيء في نهاية الأمر، وهذا هو (الرابط المشترك) بين (نظريات التلقي) الجديدة التي لا تقول بـ(تعدد) (قراءات النص) الواحد، بل بـ(لا نهائيتها)، باستحالة (المعرفة اليقينية).
ولعل هذا ما جعل John Ellis (جون إليس) في كتابه Against Deconstruction حول نقد التفكيك يصب جام غضبه على هذه الرؤية، فهو يرى أنه: ((تم التخلي منذ زمن طويل عن إمكانية اليقين Certainty والموضوعية الكاملة، ومن باب التكرار فإن أكثر الأفكار قبولاً الآن هي القول بأنَّ المعرفة كلها ذات طبيعة (افتراضية)، فهي تنتظر دائماً أن (تقلب) أو (تعدل)، عن طريق معرفة لاحقة، لا توجد جزئية معرفية ذات موضوعية كاملة في عقل العارف... (المعرفة) إذن ليست موضوعية تَماماً إذا كنا نعني بذلك (حقيقية إلى درجة لا تقبل الجدل) .
لقد حاول أقطاب (التفكيكية) تأكيد مبدأ (الشك) لهذا المنهج في كل كتاباتهم، لذلك نرى على سبيل المثال Vincent B. Leitch (فنسنت ليتش) في بداية الجزء الثاني من كتابه عن (التفكيك) الذي خصصه لصيغ (النص) و(البينصية) يُقدِّم ما يسميه بِملاحظات (مانفستو) متأخر للتفكيك، فيبين أن كلمة (شجرة) ذلك التجمع لأربعة حروف ليست هي ذلك الشيء الخشبي، إنَّ هذه (العلامة) تدل على (غياب) الشيء لا (حضوره)، ويكشف عن إمكانية جعل معظم (النصوص) تولد مَجموعة (لا نهائية) تقريبا من الأوصاف الراقية للمعنى، فالمعنى (إنتاجٌ) متأخر، ومنعٌ للعب (الدوال)، ويرى أنَّ (القراءة) عملية تغيير للحقيقة وليست نقلاً لها، وأنَّ (التناص) مَجموعةٌ من (العلاقات) مع (نصوص) أخرى، وأن كل (نص) هو (بينص).
لقد نشأت (التفكيكية) -كما يؤكد النقاد- داخل (الشك الجديد) الذي خيم على العالم: (الشك) في المعرفة اليقينية، (الشك) في قدرات العلم، (الشك) في قدرات العقل، و(الشك) النهائي في وجود (مركز) -أي مركز- مرجعي خارجي يعطي الأشياء شرعيتها ويمكن (اللغة) من (الدلالة)، وبدلاً من (التقاليد) التي يجب أن تدمر بعد أن حجبت (الكينونة) و(النظام الخارجي) الذي لم يعد له وجود في ظل غيبة (المركز) القادر على تثبيت الأشياء.. بدلاً من كل هذا تؤكد استراتيجية (التفكيك) استحالة (الحضور)، فحضور ذلك (المركز) المحوري الخارجي داخل (النص) أو (اللغة) يرتبط دائماً (بالغياب)، وتصبح (المراوغة) و(الغموض) و(البينصية) و(لا نهائية الدلالة) هي أبرز سمات (النص)، (فالحضور) لدى هؤلاء لم يعد (حاضراً) في (النص) أو (النسق اللغوي) إلا مقروناً (بالغياب).
إنَّ هذا (الشك) الذي تكاد (التفكيكية) تبني منهجها كله عليه هو الذي حدَّد توجهها، وأوضح لنقادها الطريقة التي ينبغي أن تُتخذ في التعامل مع (النصوص الأدبية) حين بغية (قراءتها) وإعادة (إنتاجها) و(كتابتها) و(تقويمها)، وهو -أي هذا الشك- هو الذي جعلها -هي وأصحاب نظرية (التلقي)- ينقلون (السلطة الأدبية) من (النص) الذي أضحى (النظام اللغوي) الذي يؤسسه (مشكوكاً) فيه، وأصبحت (العلاقة) فيه بين (الدال) و(المدلول) (غير يقينية)، إلى (المتلقي/القارئ) الذي صار هو الذي يُحدِّد (طبيعة) هذه العلاقة، وهو الذي يعيد (إنتاج النص) و(كتابته)، وبالتالي فقد مات (المؤلف) واختفى (النص) ما دام أنه لا يوجد (مركزية) ثابتة يُحتكم إليها في كيفية (إنتاج الدلالة)، ولم يصبح هناك علاقات واضحة و(يقينية) في (النظام اللغوي) تُحدد علاقات (الدوال) (بالمدلولات)، الأمر الذي سيؤدي حتماً إلى غموض (المعنى) وعدم المقدرة على الاتفاق عليه، وبالتالي القول بـ(لا نهائية الدلالة).
Omar1401@gmail.com
الرياض