هو شابٌ في مثل عمري تقريباً، وسيمٌ جداً، أنيقٌ ومثقفٌ ولبقٌ وتبدو عليه علاماتُ الثراء، يحمل أكثر من شهادة دكتوراه في العلوم الإنسانية والنفسية و(الروحانية)!
له مؤلفات مطبوعة في كتب، لم يصل عددها إلى العشرة فقط.. ولا العشرين فقط.. ولا المئة.. ولا المئتين؛ بل وصل عددها إلى ما يقارب -أو يتجاوز- خمسمائة كتاب مطبوع (هو نفسه يقول: لا أعرف بالضبط عدد كتبي)!
ومن دون مجهود حسابيّ سنكتشف أن الرجل يؤلف في كلّ أسبوعين، أو كلّ عشرة أيام، كتاباً واحداً على الأقل!
وجميع كتبه (أو معظمها) تصدر عن دور نشر معروفة، كما أنه يملك دار نشر خاصة تصدر بعض كتبه التي تمتنع دور النشر الأخرى عن إصدارها..
جمعتني به مصادفة عجيبة في إحدى ليالي بيروت، ونشأت بيننا صداقة مبدئية، في الليلة نفسها، دعاني خلالها إلى مكتبه ومكتبته وأهدى إليّ بعض مؤلفاته (الكثيرة!) وقد أصابني من أمره ذهولٌ كبير.. فحينما مررتُ على عناوين كتبه أفجعني تباينٌ شاسعٌ في مضامينها البادية من العناوين، فكتابٌ على درجة عالية من الأهمية العلمية أو السياسية أو الفكرية الثقافية، ويليه كتابٌ سخيفٌ عن التنجيم أو التبصير أو ملاحقة المشاهير..!
وما لبثتُ أن تحوّلَ تعجّبي منه إلى تعجّبٍ من العالم الذي نعيش فيه، فقد أظهر لي الرجل أوراقاً تتضمن عروضاً من بعض القنوات التلفزيونية التجارية (الناطقة بالعربية) تقدّم فيها مبالغ تصل إلى (أربعين ألف) دولاراً أمريكياً لقاء مقابلة معه لا تتجاوز ساعتين.. ولكنه يرفض من دون إبداء مبرراتٍ أو اعتذارات!
قال لي: هل تظنهم يعرضون تلك المبالغ من أجل إجراء مقابلة معي بوصفي العالم المفكر؟! كلا، إنهم يريدون وجهي الآخر، يريدون الأشياء التي تسميها أنت سخافاتٍ وأوهاماً..!
ثم قال لي، وكأنه يودعني سراً، ما معناه أنه يحرص على عدم ظهور صورته (رغم وسامته!) في وسائل الإعلام، لأنه يخشى على حياته من أعدائه الكُثر.. وأعداؤه ليسوا أناساً عاديين، إنهم من أعلى المستويات والطبقات .. رؤساء دول.. كلّ رؤساء دول العالم يطلبون رأسه!
هنا بدأت الصورة تتضح في ذهني، وبدأتُ ألمس ما أسميته (النأي بالعلم إلى الوهم) وشعرتُ بالحزن تحسفاً على هذا (العالِم) الذي جرّه (العالَم) إلى أن يكون (واهماً) وبائع وهم!
سألته عن مدى معرفته بالراحل (د. مصطفى محمود) فلاحظتُ عليه محاولات التهرّب من السؤال، فأعدته مصرّاً على انتزاع إجابته، فكانت أنه قرأ مصطفى محمود فقط عندما كان صغيراً، ثم تجاوزه..!
الحقّ أقول، بحسب رؤيتي وعقلي: لو أن هذا العالِم قرأ مصطفى محمود جيداً - ولم يكتف بالقراءات الطفولية - لما انزلق إلى هوّة الوهم.. إنه، كما يبدو لي، ينتهي من حيث بدأ مصطفى محمود، على عكس ما يرتجى من مثله أن يبدأ من حيث انتهى من كان قبله!
أستطيع أن أستفيض في الحديث عن هذا الرجل الخارق من حيث المعرفة والحيوية والإدهاش، ولكنّ كلامي لن يكون إيجابياً في معظمه، لهذا سأحترم ما بيننا من صداقةٍ مغلفةٍ بمودةٍ لا مصلحة لأحدنا فيها غير الارتياح.. الشيء الذي يجعلني أحتفظ باسمه دون كشفٍ قد يزعجه. بخاصة أنه ليس المعني وحده في كلامي هذا، بل إنها (بيروت).. تلك المدينة التي ينشط فيها كلّ شيء بمجرد أن يكون له من يطلبه (أو كما قال عليّ بن أبي طالب -كرّم الله وجهه: لكل ساقطةٍ لاقطة)!
فليس العالم النفسي أو الفلكي وحده، في بيروت، ينزلق إلى الدجل والشعوذة (الوهم) من أجل الجماهير.. بل معظم المثقفين والمبدعين هناك -للطرافة والأسف- تجدهم منشغلين بالمحور الأكثر رواجاً (الجسد) من أجل الجماهير أيضاً.. وكلّ ذلك يصدر في كتبٍ تطبع وتباع بمنأىً عن الرصد والتقييم، كما ينأى كلّ شيءٍ إلى ما دون كلّ شيء!
وأعتذر ممن لم يستطع القبض على شيء من مقالتي هذه، فالمسألة شائكة وحساسة ولا أظنها تؤخذ إلاّ على هذا النحو العائم.. أما عن صديقي (صاحب الخمسمائة كتاب) فقد ألتقي به قريباً، وأنتزع منه موافقةً (وديّةً) على انتقاده والتشهير به (!) فأول شيء أظنه يستحقه، هو أن يسجّل اسمه في موسوعة (غينيس) كأكثر عربيٍّ تأليفاً للكتب!
ولتأتِ من بعد ذلك الإضاءات والتحليلات والمقاربات والمفارقات التي تستفزّ كلَّ مثقفٍ يتوقف عند تلك الأعمال، بمجملها وتفصيلاتها المثيرة.. المثيرة...
ffnff69@hotmail.com
الرياض