عندما نتحدث عن «سلطة المؤثِر» للمجال التداولي للعقل المعرفي لا نستطيع أن نغفل حقيقة معرفية مؤكدة وهي «العولمة» لاعتبارات عدة منها: أنها هي التي تُشكل الإطار العام لسلطة المؤثِر، وهي التي تسعى إلى توحيد المجالات التداولية للشعوب على كافة المستويات لفرض «سيطرة القطب الواحد الذي يملك المعلومة، ويملك التقنية وأدوات الاتصال، وبالتالي يتحكم في العالم» -دور العولمة في التحول التربوي، 77-، وهي التي تتحكم في إنتاج التغييرات السلوكية والوجدانية والإضافات الثقافية التي تتحقق من خلال «الوصول للآخر، ..فتح آفاق ومجالات للحوار، .. وتمكن الاستجابة للتحدي والنهوض» -السابق، 77- وفي نفس الوقت تحفّز تلك الجماعات على تدعيم الخصوصيات الإشارية لمجالاتهم التداولية.
كل تلك الاعتبارات تجعلنا نستحضر روح العولمة عبر وسائلها المختلفة التلفاز والسينما والإنترنت والجوال وآلياتها المبنية، فاعليتها على المنظومة المرئية ونحن نتحدث عن سلطة المؤثِر للمجال التداولي للعقل المعرفي.
فالعولمة عند التركي هي التي تتحكم في تكوين سلطة المؤثِر للمجال التداولي بما تمتلكه من قدرة استطاعة على «خلق تغييرات كبيرة في المجالات المعرفية والمعلوماتية والثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية» -السابق، 46- واستخدام التركي لمصطلح «الخلق» كرمز لسلطة المؤثِر يعني أن هناك تعديلاً لقوانين الفهم والاستقبال والتأويل يخضع لها صاحب المجال التداولي يقتضي بموجبها تغير في طريقة تفكير المتلقي وبالتالي إحداث تغير لمضمون وشكل الحاصل، لأن كل تغير في الشكل والمضمون هو حاصل تعديل لقوانين الاستقبال والفهم والتأويل، فشدة «التغير في الوسيلة لا بد أن يتبعها شدة مماثلة في تغير الرسالة وفي تغير شروط الاستقبال» -الثقافة التلفزيونية، 25- «وإحداث حالات التغير البشري في الرؤية والفهم» -السابق، 26- وبذلك يتفق التركي مع الغذامي في أثر سلطة المؤثِر للمجال التداولي على تغير طريقة تفكير الجماعات نحو الأشياء.
كما أن مصطلح «الخلق» يعيدنا إلى تعريف المعرفة عند البازعي «عملية تخلّق أو بناء معلومات مداميك أو لبنات» -قلق المعرفة، 109- أي تحويل مكونات سلطة المؤثِر «عصر المعلومات» كما يراها البازعي أو «مجتمع المعلوماتية» كما يراها التركي، أو «الثقافة البصرية» كما يراها الغذامي للمجال التداولي إلى خبرات معرفية، وبذلك فكل واحد منهم له توصيفه الخاص لتلك السلطة المؤثرة في حركة المجال التداولي للعقل المعرفي، وذلك التحويل يستلزم تعديلاً لقوانين الاستقبال والفهم والتأويل، وبذلك فالتركي يتفق مع البازعي على أفقية علاقة التأثر والتأثير بين المجال التداولي للعقل المعرفي والعولمة كمشِكل لسلطة المؤثِر وعلى محددِات منحنى متوسط الصفة والقيمة والنوع لدور سلطة المؤثِر وحاصلها.
ينشأ المجال التداولي للعقل المعرفي كما يرى الغذامي نتيجة مؤسِسات الذاكرة الثقافية «الشفاهية والتدوين والكتابة والصورة» التي أسهمت في تطور المجال التداولي من خلال اكتساب ذلك المجال خبرات مختلفة ومتعددة على مستوى قوانين الاستقبال والفهم والتأويل، فالمجال التداولي له خبراته المعرفية التي اكتسبها من تطور أو تغير مؤسِسات ذاكرته الثقافية وهو ينقلها معه أثناء ممارسة التجربة المعرفية الجديدة.
إذن نحن هنا أمام خاصية «التراكمية المعرفية» لذات التجربة المعرفية، وليس لذات مضمون الصورة، لأن الصورة عند الغذامي تفتقد خاصية التراكمية لتغيّب مضمونها عن خبرة السياق.
يتفق الغذامي مع البازعي على امتلاك المجال التداولي للعقل المعرفي لسلطتين؛ سلطة البنية أو كما يسميها الغذامي «الجوهريات الثقافية» و»الهويات الجوهرية» و»القيم الثقافية التقليدية» وسلطة المؤثر أو «ثقافة الصورة» و»الثقافة البصرية»، وهذه السلطة في ذاتها لها مدونتها المعرفية التي تتميز بخصائصها الفنية والتي تحول الصورة إلى ثقافة ثم إلى سلطة تحرك المجال التداولي، ويمكن تلخيص خصائص سلطة المؤثِر/ثقافة الصورة عند الغذامي كالآتي:
تُؤسَس سلطة المؤثِر للمجال التداولي على ركيزتين هما المصدر/ الصورة أو «القائد الفكر الثقافي» -السابق، 25- والتي «تتولى رسم المعاني وتغيير المصطلحات»-السابق 168- والمستقِبل، ووفق خصائص كل منهما تتشكل الرسالة المعرفية التي يتحرك من خلالها المجال التداولي.
لا يمكن أن يتم إدراك عقلي بدون إدراك حسي كمكون للذهن باعتبار أن الإدراك الحسي هو مجموع المعارف والتصورات، وهو ومؤسِس لقواعد برمجة مبادئ العقل ضمن نظام الامتثالات عبر نوعي التصورات، وعلى ضوء هذا المبدأ فإن الصورة تلعب هنا دورين؛ دور المعطى الحسي ودور الإدراك الحسي، والإدراك الحسي بدوره يملك وظيفتين؛ الوظيفة الأولى تقديم مجموع المعارف والتصورات عبر المعلومة المرئية، والوظيفة الثانية الامتثالات عبر إعادة إنتاج مضمون الصورة وفق علاقة نسقية خاصة بالمتلقي، وبذلك فالصورة كما يقول الغذامي تسعى إلى «اختزال النموذج الاتصالي بدمج ثلاثة عناصر منه في عنصر واحد» -25- أي المرسل والوسيلة والرسالة.
فالتصورات الناتجة عن الذهن هي تصورات محضة حاصل تعديل فيزيائي للنشاط الدماغي المستقبِل للصورة والذي يحول الإدراك إلى تصور عبر تشكيل منظومة مفاهيم يستمدها من مكونات تلك الصورة، وهو تشكيل يتم بعد استقبال الصورة الحسية وإخضاعها للعملية التفكيرية التي تعالج تلك الصورة فيزيائياً لتحويلها إلى منظومة من العلاقات الذهنية والمعرفية، وبذلك تتنقل الصورة عبر ثلاثة مستويات؛ الاستقبال، والفهم عبر التفكيك والتحليل «النشاط الفيزيائي للعمليات العقلية» وإعادة تدويرها من خلال إنتاجها كمنظومة معرفية، وبناء على تلك المستويات يصبح الفكر هو الذي يتحكم في الصور لا العيان، وهو ما يفسر لنا احتمالية وجود صراع بين سلطة البنية وسلطة المؤثِر إذا عارضت ثقافة الصورة أصول الجوهريات الثقافية.
وتحليل التصورات يعتمد على تقسيم الذهن وفق قدراته المختلفة سواء على مستوى البحث في المضمون القبلي للتصورات «جوهريات الثقافة» أو مستوى الاستعمال المحض لتلك التصورات «حرية استقبال وفهم وتأويل الصورة». المتحكمة في الذهن والفهم، الذهن كمُّورد وحافظ للمادة مثل الإدراكات والوقائع، والفهم كوسيلة لإعادة تدوير وإنتاج المعلومة المرئية وأشكالها، لكن تظل التصورات هي ممثلات ذلك الإنتاج، ولذلك يمكن اعتبارها إحدى الظواهر العقلية المؤثرة في تكوين مضمون المعلومة المرئية؛ باعتبارها أنها قصدية تشير إلى موضوع خاص أو تتكون من خلال العلاقة مع موضوع خاص.
وبذلك فالتصور كظاهرة عقلية يُنتج تكوين المعلومة المرئية عبر تدويرها يمكن تمييزه من خلال المصدر والصفة والعلاقة.
المصدر لأنه مستمد من الإدراك الداخلي، والصفة باعتبارها تمثيل وحدة مع الموضوع الخاص، والعلاقة لأنه يرتبط بمعطيات موضوعه الخاص، وبذلك فإن كل ظاهرة تعتمد على حاصل لمعلومة مرئية تتضمن بالتبعية موقفاً قضوياً.
وبناءً على ذلك فإن التصور الناتج عن استقبال وفهم وتأويل الصورة يعتمد على موقف قضوي ينتج ظاهرة وجدانية، أو أن الظاهرة الوجدانية التي تعتمد على تأويلات الصورة هي مجموع مواقف قضوية.
واكتساب معارف جديدة والتواصل مع الوقائع والثقافات» -10-
وسعت الصورة مساحة المجال التداولي لممارسة التفاعل مع المعلومة وإنتاج الخبرة المعرفية من خلال إضافة المهمشين إلى مركز التفاعل المعرفي مساواة بمن يملك القدرة على امتلاك المعرفة الكلاسيكية ونشرها وهي بتلك المساواة قد كسرت «الحاجز الثقافي والتمييز الطبقي بين الفئات» -10- وبذلك أصبحت الصورة معززة للديمقراطية والدكتاتورية معاً، الديمقراطية من خلال إتاحة النفعية من مصدر المعلومة المرئية للجميع، والدكتاتورية من خلال توحيد الإطار التداولي للصورة لمن يمتلك تقنيات إنتاجها رغم تعددية نوعية فضاءاتها ومذاهبها وتياراتها السياسية والثقافية والتاريخية، لتصبح الصورة «الأداة الثقافية المهيمنة التي تتحكم في الذهن البشري» -السابق، 193-
الصورة رغم أنها تحفّز على اكتشاف الآخر والتعرف عليه إلا أنها ليس بالضرورة أن تحقق التقارب بين شعوب العالم بل قد تؤدي إلى تقوقع الشعوب في خصوصياتهم والإصرار على فرض سلطة بنية مجالهم التداولي، لأن كشف المتلقي المزيد من المعلومات عن الآخرين وتوسيع رؤيته لصور أحوالهم وعاداتهم وسلوكياتهم التي تختلف عن أصول سلطة البنية لمجاله التداولي تدفعه إلى «التحصن وحماية ذاته وقد يتحفز عبر تخويف نفسه وبني جنسه من تلك الثقافة الغربية» وقد تدفعه إلى الشك «وربما الكراهية والعداء لكل غريب مختلف» -206-.
استطاعت الصورة من إعادة توزيع السلطة الثقافية عبر تفكيك الاحتكار الثقافي وأحدثت تغيراً في ترتيب أولويات الأشياء مما أفقدت السلطة الثقافية التقليدية/النخبة «دورها في القيادة والوصاية وتلاشت تبعا لذلك رمزيتها التقليدية التي كانت تملكها من قبل» -11- وبذلك كسرت الطوق «القديم حول وسيلة التعبير ووسيلة الاتصال ومصادر المعرفة التي كلها كانت من خصائص النخب دون الجماهير» -54-.
كما استطاعت الصورة نقل المهمشين إلى مركز استقبال المعلومة المرئية وممارسة تأويلها فقد استطاعت أيضاً جعلهم سلطة ثقافية من خلال تحويلهم إلى «رأي العام غير محكوم بقيادة معينة» -55-.
والتحوّل إلى رأي عام يستلزم تبني موقفاً قضوياً مبنياَ وفق التصور الناتج عن تأويل الصورة والمعتمد على مدلولات مضمون الصورة سواء على مستوى الإشارة الناتج للامتثال، أو على مستوى الصفة الناتجة للموقف أو على مستوى الكلية الناتج للمعرفة المرئية أو التصور المعرفي أو العلاقة المعرفية التي تُحرك بواسطتها المجال التداولي كرأي عام.
كون الصورة تهدف إلى توحيد إطار المجال التداولي وإنتاج الرأي العام فهي تسعى أيضاً إلى استبدال الفرد الثقافي بمنظومة «ثقافية لها طابع نجومي نموذجي ونمطي في آن واحد» -12- وهذا الاستبدال كما أنه يغيّب القائد الفكري والثقافي للمجال التداولي المحلي لمصلحة القائد الفكري والثقافي العولمي فهو يعزز الفكرة التسويقية للثقافة على حساب جودة المضمون.
الصورة كثقافة بصرية هي خطاب، وقد صار هذا الخطاب هو «العلامة الدالة الأخطر للذهنية البشرية في الوعي وفي التأويل» -13- هو الأخطر لِما تملكه تلك الثقافة من إحداث أثر لأن «فعل الصورة ومفعوليتها لا تكون عبر تصديقها أو تكذيبها وإنما عبر قدرتها على إحداث الأثر» -37- وهو ما قد يسهم في صياغة حقيقة زائفة.
استطاعت الصورة أن تُنتج لنفسها خصوصية نحوية من خلال سنّها لقوانين حرة ومستقلة على مستوى الاستقبال الفهم والتأويل وهي «إلغاء السياق الذهني للحدث، السرعة اللحظوية، التلوين التقني، تفعيل النجومية، القابلية السريعة للنسيان/إلغاء الذاكرة» -السابق، 12-.
وذلك النحو بقوانينه هو الذي يحول «منطق الأشياء ليعيد علاقات الفهم والتفسير ويؤسس لخطاب ثقافي جديد» -172- له علاماته وما يتفرع من تلك العلامات من مصطلحات ومفاهيم تبني مرحلة ثقافية تقترب من الصورة وتبتعد عن المنطق.
وهي أيضاً ممثل لصيغة لغوية جديدة تحمل فاعلية التغير، فالصورة منظومة من الرموز المرئية تفتقد الكلمات، وبذلك فالصورة لا تعتمد «على اللغة في الوصول لذهن المتلقي» -173- أو «كشرط للفهم في استقبال الصورة» -173-مما أنعكس على موضوعية الاستنتاج من خلال فصل الحدث الذي تُرّوج له الصورة عن سياقه وعزل «العلاقة المنطقية التقليدية في الارتباط بين الأسباب والنتائج» -173- هذا الاختصار الأسلوبي في تحصيل مضمون الصورة ألغى احتياج المتلقي إلى فنيات الشرح اللغوي والمنطقي والتحليل والتحقيق والتفكير، من خلال إحداث «معجم جديد تتحدد به المصطلحات ويكسبها معنى مختلفاً، ..وتكون مادة لنحو جديد يعيد صياغة الاستقبال وصياغة الفهم، ومن ثم.. تعديل أنظمة التأويل» -188-.
الصورة في ذاتها منظومة من الثنائيات يمثلها الغذامي بالتأنيث والتفحيل، والتعري والتحجب، والفتنة والعفة، وتعرف وتكره، النخبوي والشعبي، والغزو الفكري والغزو المضاد، وتلك الثنائيات هي نتيجة التورية الثقافية كما يسميها الغذامي والتي تتأسس «على دلالات مزدوجة» -196- و»من حيث دلالتها على الشيء ونقيضه حيث هي نسق ثقافي يملك دوما دلالتين مختلفتين، ..من حيث بناء الصورة لمعنى ثم تحفيزها لمعنى آخر مضاد، ..فهي تثير معاني متناقضة حتى لتثير التأويل والتأويل المضاد معاً في آن»، -198- وتلك الخاصية للصورة هي نتيجة القوانين الحرة للاستقبال والفهم والتأويل التي يمارسها المتلقي ونتيجة أيضاً غياب سلطة اللغة وآليات العقل والمنطق على تلك القوانين التي تمنح المتلقي القدرة على الاستقلال والتمييز» -66-. الاستقلال عن قوانين التفكير التقليدي والتمييز في إنتاج الموقف الوجداني الخاص.
جدة