«وخير جليس في الزمان كتاب» نشأنا نردّد هذه العبارة التي أطلقها المتنبي في بيته المشهور، ومع أهمية الكتاب التي لا ينكرها عاقل إلا أنه لم يسلم من نكبات مختلفة تعرض لها على مدى العصور من إتلاف وحرق ومصادرة وتمزيق ودفن، لأسباب غالبًا ما تكون سياسية، أو اجتماعية، أو عادات وتقاليد، وقد ظهر عبر التاريخ نوعان من حرق الكتب: الأول تمثل في حرق المؤلفين لكتبهم كما فعل أبو حيان التوحيدي بكتبه وربما كان سبب ذلك ضغوطا نفسية أو اجتماعية كما ذكر البعض، والثاني يمثله الحرق المتعمد من فرق متعصبة صبت غضبها على الكتب مستغلة نفوذ السلطة التي يملكها صاحب القرار.
ولعلّ أقدم حادثة لحرق الكتب سجلها التاريخ تلك التي قام بها إمبراطور الصين (شي هوانغ تي) عام 212 ق.م، حين أحرق مئات الكتب والدراسات التي ألفت في عهد سابق لعهده، وقد فسّر (فريدريك هيغل) ذلك بأن الإمبراطور إنما فعلها لأجل «تقوية أسرته الحاكمة عن طريق هدم وتدمير ذكرى الأسر الحاكمة السابقة» أي أنّ إلغاء السابق ودفنه يعني حياة للجديد واستمرارًا لنفوذه!!
وفي تاريخنا العربي والإسلامي عرفنا ظاهرة حرق الكتب وإعدام مؤلفيها أو نفيهم خارج بلادهم، أو تكفير بعض الفلاسفة الذين ترجموا كتب الفلسفة الإغريقية مثل الفارابي وابن رشد وغيرهما، وقد سجل لنا التاريخ بمصادره المتعددة أنّ مكتبة الإسكندرية - أقدم مكتبة في التاريخ- تعرضت للحرق مرتين، حيث أكد (لوبون جوستاف) في كتابه (حضارة العرب) أن المكتبة قد أحرقت عام 48ق.م في عهد يوليوس قيصر، بينما تشير مصادر أخرى إلى أنّ كثيرًا من كتب هذه المكتبة تعرضت للحرق على يد بعض الفاتحين العرب في ظل اجتهاد يتعارض مع سماحة الإسلام، ودعوته إلى العلم والمعرفة، بل مع تعاليم النبي-صلى الله عليه وسلم- التي تنهى عن هدم حتى الكنائس والدير في البلاد التي يدخلها المسلمون فاتحين، فما بالنا بالكتب وهي مصدر العلوم والمعارف! وفي العصر العباسي أيضًا نجد ما يشير إلى قيام الخليفة المتوكل بالتنكيل بكل من جاهر برأي مخالف للسلطة بأنواعها، ولهذا تعرض كثير من الكتاب للتعذيب والإعدام.
وأشهرهم: ابن، وبشار بن برد، والحلاج، والقائمة تمتد حتى نصل إلى العصر الأندلسي حيث اتهم الفيلسوف ابن رشد بالزندقة، وقدم للمحاكمة وأحرقت كتبه، وصودرت أخرى استفاد منها الغربيون أكثر من استفادتنا منها، كما أحرقت أيضا كتب ابن حزم، وكتب الإمام الغزالي، وحدث ذلك كله لأسباب كثيرة تعود في مجملها إلى تأزم العلاقة بين المثقف والسلطة، ورغم اختلاف الدوافع والأسباب وراء حرق الكتب والمكتبات إلا أنها جميعا اتفقت على مصادرة حرية الفكر، وحق المثقف في الاختيار والتعبير عن آرائه واختلافه، ونتيجة لهذا فإنّ « العالم العربي قد تخلى لقرون كاملة عن أي حركة علمية» لأنه كان قد خسر كثيرًا من تراثه وكتبه التي تشكّل قاعدة صلبة ينطلق منها للتجديد.
وإذا نظرنا اليوم إلى أوضاعنا الراهنة في العالمين العربي والإسلامي، لوجدنا أنّ الأمر لا يزال قائمًا بوجه أو بآخر، فإذا كانت ظاهرة حرق الكتب لم تعد موجودة في عصرنا فإنّ تعرض الكتب للرقابة والقمع مستمر بوسائل وطرق مختلفة، منها الاتهامات للكتّاب والأدباء المخالفين لآراء غيرهم والتكفير، وإجهاض أي حركة فكرية تنويرية تدعو للعقلانية والحكمة، أي أنّ ظاهرة حرق الكتب تحولت عبر العصور إلى شكل حديث برز في صورة الرقابة ومصادرة الكتب ومنعها من الدخول للبلاد، بما يشبه حالة من الرُهاب نتجت عن الخوف الشديد الذي يعاني منه كل فكر آثر البقاء في الظلام في عصر العولمة والانفتاح على الآخر. ولعلّ قضية كتاب(ألف ليلة وليلة) التي عادت مؤخرًا للظهور في مصر بعد أن انتهت عام 1986م، حيث طالعتنا الصحف المصرية الأيام الماضية بتلك الهجمة العنيفة التي وصفها المثقفون المصريون بأنها « الأقوى على الأعمال الأدبية والفكرية منذ بضع سنوات وتحديدًا منذ أزمة رواية وليمة لأعشاب البحر للكاتب السوري حيدر حيدر» وتطورت القضية إلى تعاضد بين جبهتين: جبهة علماء الأزهر، وجبهة المحامين المتطوعين الذين رفعوا القضية للنائب العام، وحسب قول أحدهم فإنّ الهدف من رفع القضية على وزارة الثقافة التي أعادت طباعة هذا الكتاب هو»تصفية الحياة الثقافية والفكرية في مصر من الأدب الرخيص وكل ما يمت له بصلة من قريب أو بعيد والتي من شأنها أن تفسد الأذواق والآداب في الداخل والخارج أيضًا»
تلك هي ثقافة الإقصاء القائمة على الإدانة المسبقة والحكم بالمصادرة لكل من يخالف آراءهم أوتوجهاتهم، في ظل أزمة التلقي التي تشير إلى تدني مستوى الوعي الثقافي والمعرفي لدى القارئ، فلم تشفع لهذا الكتاب مكانته الأدبية والثقافية، فهو الكتاب التراثي الذي اهتمت به الآداب العالمية وترجم إلى عدة لغات، وقامت عليه دراسات أدبية ونقدية، وأبحاث مقارنة في مختلف الجامعات الشرقية والغربية، ومع هذا نطالب بمصادرته ونرفض إعادة طباعته كوجه آخر لظاهرة حرق الكتب وتدميرها التي زخر بها التاريخ، وبحجة غريبة لا تقنع أي متلق واع من فئة نصّبت نفسها وصية على المتلقين الذين يخشون على أخلاقهم من كتاب يحوي عبارات (تخدش الحياء) على حد زعمهم! لكن موقف اتحاد كتاب مصر جاء ردًا مناسبًا ومعبرًا عن وعي ثقافي بحجم الأزمة، حيث دعا إلى إعادة قراءة هذا الكتاب قراءة علمية منهجية، تقوم على التحاور حول جماليات النص في مؤتمر عنون ب (ألف ليلة وليلة ومستويات التلقي) تضمن محاور مختلفة ارتبطت بالواقع الاجتماعي، وحرية التعبير، وحرية التلقي، والخيال الدرامي، وغيرها.. تلك أزمة ينبغي دراستها والخروج منها فهي لم تعد مقصورة على بلد دون آخر، بل تكاد تكون ظاهرة عربية برزت من خلال منع كتب كثيرة من التواجد على أرفف المكتبات، ومصادرة أخرى ومنع طباعتها، ثم منع تدريس بعضها في الجامعات، كما لوحق بعض الكتاب أو نفوا خارج بلادهم، ليصبحوا غرباء بعلمهم وفكرهم حتى داخل أوطانهم، ولا أحد يفهم سرّ هذا الخوف من الكتب، ونظل نبحث عن إجابة لسؤال فجره (جونتر جراس) عند حصوله على جائزة نوبل 1999م، حين تساءل» عمّا يجعل الأدب خطرًا؟ وعدّد أدباء وشعراء تمت ملاحقتهم منذ فجر التاريخ» فمتى نعي أهمية أن نختلف لنصل إلى الحقيقة لا لنخلق أزمة فكرية وثقافية؟.
جدة