Culture Magazine Thursday  14/10/2010 G Issue 319
سرد
الخميس 6 ,ذو القعدة 1431   العدد  319
 
قصة قصيرة
زوايا حادة
محمد المزيني

زاوية (1)

ينحدر الليل عبر الأزقة هادئا ورتيبا كعادته دون أن يحس به أحد كلص متمرس، يصبغ الجدران بلونه القاتم، ينداح صوت نشيج يصدر من بكاء مكظوم، توقف الليل برهة تحت ضوء خافت في غرفة قصية من بيت عتيق يتوسط الحي، ترتفع هامة الليل متجاوزا حافات النوافذ الموصدة خلف سموم الصيف اللافح يخترق النشيج عتمة الليل والضوء مسلط فوق كاهل شاب ينحني نحو امرأة عجوز ممسكا بيدها يقبلها، بعين تجندل دموعا ساخنة فوق كفها متوسلا مغفرتها ترفع عينيها الشاخصتين نحوه تلمعان بدموع نقية تتضرع إليه أن يبقى، تحنو عليه وتسحب رأسه إليها وتحضنه.

زاوية (2)

تملص من بين أيادي الاستجداء، تعثر بصوت أخير يناديه كان منتصبا في الردهة السفلية لم يترك لأذنيه مجالا كي تصغيان للصوت الذي يلاحقه، اقتنصت عينه ملمحا أخيرا للكتابات الجدارية القديمة التي تفترش حائط السور الخارجي.. عبارات تفيض بالحياة والتشبث.. يعيش الهلال... يا حياتي.. ف + ن = حب. وقبل أن تفتح في قلبه فوهة الحنين وتبعث في روحه الماضي المجيد بشقاواتهم الصغيرة سحب مزلاج الباب ودحرج قدميه على قارعة الطريق وغاص في عمق الليل المجهول.

زاوية (4)

الصوت يتردد والصدى يجلجل، يلتف الليل برواقه الأسود التفافة كاملة حول أكتاف المدينة تنسحب بقايا الضجيج المنتشرة عبر الأزقة. يطلق الهواء أقدامه مداعبا روائح الذين رحلوا كي يقشروا تعب نهارهم فوق فرشهم. داعب فروة قطة تتمطى فوق رصيف بارد، استدار برشاقة يخامر الجدران وتحت النافذة تثاقل إلى الأرض تحت وطأة نشيج المرأة.. يعلو النشيج ويتكور الهواء على نفسه ممعنا بالحزن.

زاوية (5)

سيارة صالون رابضة داخل أحد المنازل، أقدام تتابع خطواتها، وأيد تمتد في غمرة الليل البهيم، لا ضوء سوى العيون البارقة كسيوف محاربين، الهواء لا يزال مقعيا في الخارج، والقطة تطوي صغارها بين جوانحها، والأيدي تتناوب الحمل والأنفاس محشورة في الصدور. شاب يقف فارعا مسندا رأسه على باب السيارة الخلفي بعينين واجمتين لا تتزحزحان عن الشباب المشتعلين حماسة وهم يضعون الأشياء داخل السيارة بخفة ورشاقة. خمد الصوت الشاجي، ثم طفق الهواء يحرك أوصال الكون، ويهز مزاليج الأبواب الموصدة كمتسول، اعتلى الجميع صهوة السيارة وأغلقت الأبواب على مهل، ركضت الهرة تحمل صغارها بعيدا هاربة من عجلات السيارة العمياء، وهي تنحدر عبر الأزقة إلى حيث الدائرة السوداء.

زاوية (6)

تكاثفت الرؤية أمام الشاب المزحوم بالوقت فليس أمامه سوى خمس ساعات يستقل بعدها عربة النهايات، سيخوض بها زحام الرياض؛ للوصول إلى محطته الدنيوية الأخيرة، فيلج أستارا شفافة سحرية إلى حيث جنته الموعودة. تبدت الأشياء أمام عينيه الموجوعتين بانتماء كامل للحياة، وكأنه يراها للمرة الأولى حتى البعوضة التي تطن قريبا من أذنه أمست ذات مغزى فهي مثل المفتاح الصغير الذي تفتح له خزنة الحياة الموصدة، وهي تفتح لأذنيه طريقا إلى الصوت صار مرهفا لكل الخرفشات من حوله، الهواء الذي يراقص بقايا الأشياء المهملة على الأرض، أصوات المحركات التي تشق السكون إلى نصفين، أنفاسه الساخنة التي يصفر بها أنفه، وجيب قلبه المتصاعد وفق مؤشر الوقت. كانت المدينة تبخر رائحة الليل تمهيدا لحضور الصباح، ظل وحيدا يمور في لجة حزن مر لا يفارقه، لم يعد الوقت كافيا للتراجع، الساعات تزفه إلى محرقته الأخيرة، ما أجمل الرياض مشعاً بوهج الضوء الراقص، مغموسا بحمرتين: الشفق القادم من الشرق، وأذيال الليل المصبوغة بحمرة أضواء الشوارع، كيف لم يبصر طفولة مدينته وغنجها إلا هذه الليلة؟!! المدينة المنتظرة لثغر الصباح ستهتز مترنحة بضغطة زر غادرة، ستحفر له عنوانا عريضا ودنسا لا يمحى عن جبينها، هل تستحق جنته المزعومة مغادرة هذا الطفولة المترامية تحت قدميه والفضاء الذي تلون فجأة هذه الليلة الأخيرة ولبس حلة عروس لم توطأ قبلا، فهل من مفر؟

/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة