يستبطن العنوان - في كثافة فنية باذخة - ذاتا متفائلة وثابة، وهو في ذات الوقت يكسر أفق التوقع لدى المتلقي، من حيث انفتاحه على جملة غير محددة من حمولات الأمل، التي تأتي راجية التغيير من غير ثورة، أو وعيد، أو ضجيج...
إنها "الثورة المخملية" إذا استعرنا المصطلح السياسي، التي تؤمل في الانعتاق من أسر الواقع الذي يشكل بتفاصيله الثقافية والاجتماعية كلكلا جاثما على الرؤى التي ترنو نحو التغيير..
وتأتي "رب" في عنوان المجموعة: (ربما غدا) مكرسة للخلاف النحوي التاريخي حول دلالتها على الكثرة أو القلة! وانفتاح الدلالة هنا يعطي مزيدا من الوقوف أمام "رب" هنا عبر تشكلاتها البنائية التي تثير كثيرا من اللغط النحوي...
إن "رب" المكفوفة عن العمل نحويا، تدخل على الجملة الفعلية، ودخولها هنا على الاسم يتناغم مع حالة تقديرية لازمة! فهل نتناغم نحويا مع ضرورة دخولها على الفعل المضارع لاستحالة دخولها على الماضي في النظام النحوي غالبا؛ إذ إن اختيار "غدا" يفرض ذلك، فيكون التقدير ربما يأتي (هو) غدا، وربما يكون لنا أن ندخلها قليلا على الجملة الاسمية كما رأى بعض النحاة على تقدير: "ربما القادم الأفضل غدا"...
إن الإشكال الدلالي والنحوي، الذي يورطنا فيه العنوان هو انتصار للذائقة الفنية التي صنعت هذا التكثيف، وهي ذائقة توقفت متأملة؛ لاستيلاد هذا العنوان، الذي شكل كثافته الفنية على نحو من الفرادة، وأسهم في انفتاح هذا العنوان على معان، ودلالات لا يحدها أفق واحد قطعا...
ويبدو أن كثافة التجربة التي رانت بكلكلها على الكاتبة، وهي تحاول استحضار لحظات ميلاد نصوصها المتنوعة في المجموعة، وتذكر حوادثها، ومناسباتها، كان هو القادح الذي أغراها، بل ألهمها هذا العنوان المكثف "لذات" باحثة عن التغيير للأفضل، بعد أن رسم واقعها صورة مليئة بالتناقضات على المستوى الإنساني العام بآلامه المعذبة، ومن خلال صدمة عنيفة للأنثى أمام بعض النخب الثقافية، التي كان من المفترض أن تكون أنموذجا للعلاج والخلاص والإخلاص، بيد أنها كانت - كما في بعض قصص المجموعة - صورة كرتونية مزيفة، لوعي مصطنع!
إن هروب الكاتبة للقادم، يأتي محاولة وحيدة للهرب من كل ضبابية الآني، إنها الرغبة العارمة في الانغماس في القادم فقط، الذي يأتي (غدا)، متناغما مع سياق الضوء والظهور والانجلاء، عبر اختيار "غدا"، بكل حمولات الإشراق، والتجدد، والنور، وهو ما يحيل إذا ما لجأنا إلى مصطلحات "الأصوليين" إلى استحضار "المفهوم" من خلال "المنطوق أو المقروء"، حيث يبدو اليوم والأمس رازحان تحت واقع من الوهم الصانع للهم، في حين يأتي الغد - وإن كان محملا برب - أملا يرجى، وحلما قد يتحقق، وأمنية قد تصدق، ألم يقل الحارثي- صادقا-:
منى إن تكن حقاً تكن أعذب المنى
وإلا فقد عشنا بها زمناً رغدا
إنه الحلم اللذيذ في تغيير الواقع المر، والغناء لهذا الأمل الذي يبدو ضوءا وإن كان خافتا إلا أنه ضوء وحسبك...
إن الفعل الماضي الذي ولده العنوان، عبر "مفهوم المخالفة" أيضا، يأتي محملا بكل ذلك الأسى حيث كان.. وكان.. وكان.. مما تكشفه قصص المجموعة، مواجها وفق البناء النحوي للفعل المضارع الذي تصنعه "ربما" بقوة النظام النحوي، ليكون منفتحا على تأويلات إيجابية متعددة، تواجه كل عذابات الماضي..
إن اللعبة اللغوية الذكية بنظامها القار في ثقافة الكاتبة، وتجربتها المكثفة هما اللذان قادا المبدعة والعنوان، إلى أن يكون الماضي مغيبا؛ ليكون المستقبل هو دلالته الوحيدة، حيث يصبح الماضي لا حضور له إلا من خلال القادم.. الأمس يختفي إلا حين يشير له الغد!
تأتي المجموعة منذ البدء مكرسة لخطاب الأنثى، ليس بوصفه خطابا احتجاجيا مباشرا، بل من خلال الأنثى التي تمارس نوعا من الاختلاف على مستويات عدة، يأتي من أهمها اعتمادها على القصة القصيرة جدا؛ لتعلن من خلال ذلك رفضا لما كرسته الأنثى عن نفسها، أو كرسه لها الرجل، حين مارست منذ القدم القصة الطويلة، والحكي، واخترعت لذلك الليالي، حتى أوشك العقل الجمعي الاجتماعي أن يصم القص والحكي بالأنثى...
إن المفارقة هنا أن الأنثى هي التي تتجه نحو الاختصار والتكثيف، عبر جنس أدبي عصي على التنظير، ومتأب على كثير من المصطلحات، كما يرى الدكتور عبدالله الرشيد. (غلاف المجموعة الأخير)، وكما رآه الدكتور حسن النعمي: "تجربة صعبة، وتحتاج إلى قدرة هائلة على الاستخدام الأمثل للغة، في بنية سردية مضغوطة." (ملحق الجزيرة: الثقافية، العدد:298).
إنه الجنس الذي يحضر هنا جنسا أدبيا، يوازي فن التوقيعات التراثية في وجازته، لكنه ينطلق إلى الكشف، والتكثيف، والاختصار، لكثير مما تسرده الخطب، والقصص والروايات، وفق رؤية ذكية، تفيد من المقولة العربية القديمة: (البلاغة الإيجاز) لكنها البلاغة التي تتكئ على القصة الومضة، التي تمنحك من القصة حبكتها، ومن الشعرية وجازتها وصورها...
إن الواقع ليغدو بتفاصيله، ميدانا رحبا لالتقاط المفارقات، وإعادة صياغتها من خلال الذات المبدعة التي تكشف وتفضح، دون ضجيج أو مبالغة أو خطابة حادة، عبر رسائل قصصية وامضة، تحمل - أحيانا - البعد الطريف الساخر، الذي يجسد لحالات "كاريكاتورية" داعيا المتلقي إلى حالات ضاجة بالتأمل والتأويل...
وتغدو العلاقة الإنسانية بين "الذكر والأنثى" مرتكزا مهما للمجموعة، وتحضر الذات القاصة هنا محايدة إلى حد بعيد، فهي لا تنتصر إلا للحقيقة التي تكشفها من خلال لعبة المفارقة الذكية، التي تكشف الخلل، وهي بذلك تبدأ رحلة المعالجة التي تنفر من الاتهام والخطابية، والبكائية، التي تظهر في بعض الأعمال الإبداعية التي تعالج هذه القضية...
لم تتحيز الذات للأنثى كما لم تتحيز للذكر. لقد انحازت للكشف الذي يفضح من خلال مفارقات المشاهد، التي تقدمها المجموعة، ولم تتحيز المجموعة لصوت ضد صوت، بل كانت كاشفة لكل الأصوات، بما فيها تلك الأصوات التي تعلن دفاعها عن الأنثى، لكنها تمارس وأدها بطريقتها الخاصة..
ويأتي صوت المثقف المنادي بحقوق المرأة من أهم الأصوات التي تفضحه المجموعة بإطراف أدبي ساخر، حد القسوة...
تقول في قصة "ترجل": "قابلتْ ذلك العملاق الكبير في تلك الأمسية الثقافية..
بعد اللقاء ترجلت عن صهوة الثقة والإعجاب بالكبار.."
وتقول في قصة "مرض": "ظل يتحدث طوال السهرة عن النظرة القاصرة للمرأة، وحقوقها المسلوبة..
(يرن) هاتفه المحمول وعلى الشاشة يتراقص الرقم و(العلة تتصل بك)"
وتقول في قصتها (رأي): "بعد انتهاء الأمسية سألتني بحماسة: ما رأيك به؟
أجبت: لم يستحوذ على انتباه الجمهور.. كان مملا، تقليديا، متعجرفا..
ردت بحدة: كيف؟ لقد كان في أوج تألقه، وسيما، أنيقا، طوله و..
قاطعتها بأسى: يبدو أنني لست مثقفة بعد!!"
ليست "العلة" في قصة "مرض" إلا حالة فاضحة، تتجاوز في إشكالياتها الحادثة المجردة إلى خلل اجتماعي ثقافي، يرتكس فيه بعض دعاة حقوق المرأة، الذين يسحرونها نظريا، ويقتلونها عمليا، عبر اللغة الماكرة المخادعة، التي يمتطونها بمهارة فائقة؛ لتعود اللغة لتفضحهم تارة أخرى، ويغدو الخاص المكتوب المغيب، فاضحا للمجهور الحاضر الظاهر!
تكشف القصة في إيجاز مكثف هذا الخلل، دون ولوج إلى خطابية وعظية، أو سجال فني مطول...
إن الحالة لا تستدعي أكثر من ضوء أنثوي فاعل متيقظ كاشف؛ يسلط نوره أمام هذه الحالات المرضية، التي تعتقد أنها تناصر الأنثى؛ باستجلاب قضاياها، والدفاع عنها، غير أن النص الموجز يعود؛ ليكون نصا التفافيا ذكيا، يطعن الرجل في أقصى درجات موضوعيته وصدقه...
مؤلم أن يكون الفعل نقيضا صارخا للقول، كاشفا عوار المتلبسين بقضايا المرأة الذين يغيرون جلودهم؛ وفق الحاجة لاسترضائها، وهم يمارسون وأدها الفعلي على هذا النحو من التناقض الساذج الذي يفضحه نص (مرض) إذ تظل حالة "القول" في النص حالة طويلة؛ لسهولتها، وقدرة المثقف على الإيهام والمراوغة والكذب: "ظل يتحدث طوال السهرة" تظل الحالة، والذكر هنا فاعل غائب، مستتر بضميره المستتر نحويا وموضوعيا! بيد أن السرد يتحول عبر التفات سردي، لا بلاغي إلى الجهاز الفاضح، حيث يغدو الفاعل هو المحمول الذي يرن، والرقم الذي يتراقص، وواضح أن بناء المشهد هنا عبر الاستعانة "بيرن ويتراقص" ذا بعد إشاري فني إلى المثقف المتشدق بالدفاع عن حقوق المرأة في بداية النص، وهو الذي لا تتجاوز كلماته الكاذبة، مجرد تراقص كاذب، ورنين مفتعل لقضيته مع المرأة كما كان تراقص الرقم، ورنين المحمول، وهو رقص لا يعدو أن يكون رقصا على آهات الأنثى، وتجملا أجوف لفكرته نحوها، حيث تبدو هي الضحية في آخر المشهد، حين يتراقص رقمها: "والطير يرقص مذبوحا من الألم"!
وسيكون مبررا، بعد ذلك أن نكمل البياض الذي شاءته الكاتبة متخللا نصها (ترجل) حيث يكشف اللقاء عن الكفر بالمثقف، والبراءة من الإعجاب بالكبار! أما لماذا فالنص لا يكشف عن ذلك، بيد أن مفهومه يشير صراحة إلى أن المواجهة الحقيقية كشفت الزيف والخداع، إنها اللحظة المشابهة لتراقص الرقم في نص (مرض) حيث ينتزع اللقاء المباشر الثقة، والإعجاب بالكبار، كما انتزعته لحظة المواجهة ورؤية تراقص الرقم في الجوال.
وتبدو الحالة المرضية الذكورية المثقفة المستنيرة، حالة تصنعها الأنثى الخاوية أيضا، حيث يبدو إعجابها الساذج؛ سببا فاعلا في ظهور حالات الخلل، والازدواج، وهو ما يعطي الذكر المثقف المريض فرصة اللعب على الأوتار التي تحبها الأنثى!
إن الأنثى المثقفة أو المتدرعة عنوة رداء الثقافة، عبر إحضار النص لها في منتدى ثقافي، هي التي تسهم في صناعة الكبار، عبر نص (ترجل) وهي ذاتها الذي يحضر صوتها في نص: (رأي) وهي تؤكد أنه كان: وسيما أنيقا.. بينما يأتي صوت الأنثى الواعي الكاشف، الذي يستبطن المظاهر، ولا يؤمن بالظواهر، صوتا مختلفا: "كان تقليديا مملا متعجرفا.." والنص يكشف عن حالتين متوازيتين للأنثى، تلك التي ترضخ للشكل، وتتطلع للهيئة ويسحرها الجمال الظاهر: (وسيما - أنيقا) والأنثى التي تستبطن الوعي، وتحاكم الفكرة، وتتجه نحو الرؤية : (تقليديا - متعجرفا - مملا) وهنا يبدو الخلل الذي صنع "المثقف الفحل" إذا استعرنا مفردات الغذامي في نقده الثقافي، بل إن الخلل ليبدو ظاهرة تسطيح يعيشها الوسط الثقافي حين يصنع الكبار، ويؤمن بأحقيتهم، وهم بكل هذا التناقض الفاضح! حيث يظهر المثقف الفحل، وتغيب المثقفة الواعية، وكأن ظهورها سيعيد ترتيب الأولويات من جديد، إن صوت الأنثى الواعية، يقول في ختام نص (رأي): "يبدو أنني لست مثقفة بعد) وهو إعلان للغياب، الذي فرضه الكبار "المستفحلون" بقوة، الذين لا يعطون استحقاق لقب "المثقفة" إلا للأنثى التي آمنت باستحقاقهم الثقافي، وهم الداعون كذلك نظريا لحقوقها، الذين ارتضاهم الوسط المريض كذلك، وارتضتهم الأنثى الخاوية كذلك أيضا، وبالتالي فإن حضور صوت الأنثى الواعي سيخلق استحقاقات جديدة، لن يرضى بها المثقف الفحل! فيكون غيابها القسري ممارسة نسقية، تتزيا من جديد بالدعوة لحقوق المرأة، كما تزيت بالدعوة للحداثة عند نسقيي الغذامي التحديثيين الرجعيين!
وهو المثقف الذي تكشف بعض النصوص سذاجته، وغباءه في أكثر من موضع، حتى وهو يحاول أن يقترب من الأنثى، متحليا بزي الناقد، الذي يخبئ خلف كلماته الفحولة الماكرة...تقول في نص (بينها):
"سألها أعرفك منذ مدة طويلة، أنت إنسانة جميلة، طموحة، مرحة، متفائلة.. لم لا أرى هذا في كتاباتك؟
أجابت: كيف؟
رد: كل حروفك ألم، حزن، بؤس، فقر، ظلم و.. و..
ضحكت كثيرا ثم قالت: ربما أنت لا تعرفني جيدا!!"
إن جهل المثقف الفحل هو ما تكرسه النصوص السابقة في تحد واضح لمستوى فهمه ووعيه، ولذلك تأتي "ربما" هنا إشارة عائمة إلى إمكانية ضئيلة أو كبيرة للتغيير، وفق سياقها الذي بدا في العنوان سابقا...
إن المثقف الفحل المتحدث والمدافع عن حقوق المرأة، المثني على إبداعها، الحاضر في مخيلة الأنثى الخاوية، هو ذاته المثقف الفحل، الذي تكشف الأنثى الواعية مكره، وتناقضه وتسخر من نقده، وتأبى الانقياد والاقتناع لحضوره الكبير، مما يعني أن هناك إشكالا حقيقيا تعانيه الساحة الثقافية الإبداعية، حيث يتحكم المستفحلون الكبار، ويصلون إلى وعي الأنثى الساذجة، ويمارسون في سبيل الوصول إليها المنعرجات النقدية، ويهللون ويطبلون لها، بيد أن "ربما غداً" عبر هذه النصوص تكشف الذكورة في أبشع تجلياتها، حين تكون الوسيلة إلى المرأة التمويه الكاذب بقضاياها، أو التصفيق الماكر لإبداعها، وتأتي الأنثى الواعية كاشفة هذا المكر الذكوري المستفحل، في إشارات، وومضات مكثفة، تنحو نحو الإيجاز، لكنه الإيجاز العنيف، القاتل، الإيجاز الذي يحمل في يده دلالة الجرم الثقافي الذكوري...
صدرت المجموعة عن نادي المنطقة الشرقية الأدبي، الطبعة الأولى، 143.هـ - 2.1.م.
أبها