إن تحويل الفتنة من حالة تفكيرية طارئة إلى نظام عقلي يستند على قاعدة بيانات معيارية وارتباطات تبريرية مقوننة تتفق مع المنظومة العُرفية للواقع الاجتماعي لتجويّز منطق محاربة محتوى التغيير وأشكاله هو أول ما يدركه القارئ لكتاب «فتنة القول بتعليم البنات» لعبدالله الوشمي.
وقد مارس ذلك التحويل الكشف عن إشكاليات العقل والواقع السعوديين في فترة تاريخية خضع لها التفكير الاجتماعي السعودي إلى إعادة تأهيل؛ ليستطيع التكيّف مع متطلبات العصّرنة والتحديث.
لنجد أن تلك الإشكاليات قد أسهمت في ظهور مصطلحي العقل الفتنوي والعقل الإصلاحي كمنظومتين تبريريتين متقاطعتين دينياً وسياسياً واجتماعياً أحداهما تُحرم التغيير والأخرى تُشرّعه، وهاتان المنظومتان اللتان أرهصا لحقبة التنوير في المجتمع السعودي هما اللتان بنى عليهما المؤلف خطاب كتابه.
وعلى مستوى ترتيب بنية العلاقات الوظيفية لخطاب الكتاب سنجد أن هناك القضية والإشكالية والموقف والمنظومة التبريرية المعالِجة للمعطيات وعللية الاقترانات التي انبنى عليها نوعية الموقف وما أُنتج عنه من حقول دلالية، وما أُشتق من تلك العلاقات الوظيفية من مصطلحات مثل مصطلح العقل الفتنوي، العقل الإصلاحي.
وهذا بدوره يؤسس «بنية تصورية محددة بأحكام» تؤدي وظائف وتنتج مفاهيم وممثلات.
والعقل الفتنوي يبرز من خلال خطاب الكتاب كمصطلح فلسفي يعتمد في انبنائه على إشكالية جدلية الصراع ومعطيات ثنائية الرفض والقبول لقضية التغيير.
وهو بذلك يجعل قضية التغيير تتجاوز المشكلة الاجتماعية لتصبح في ذاتها إشكالية فكرية تتعلق بالمفاهيم والحقائق المتعالية وقوانين الثابت والمتحول.
وهي إشكالية عادة ما تنتج الارتباك «في ضبط البوصلة الحضارية نابع من افتقاد الرؤية الصائبة بين ما هو مبدأ وأهداف يجب الثبات عليها، وبين ما هو وسائل وطرق يباح التنويع بينها وفق ما هو مشروع»- فتنة140-.
كما أن الارتباك الحضاري الذي أسس منظومة العقل الفتنوي هو أيضاً نتيجة «المقايسة التي يجريها العقل مع واقعه وواقع المجربين قبله، ومن خلال فهوم متواضعة عند بعض الممانعين يُصل العقل إلى الممانعة، ولذا فقد كان السبيل إلى حل هذه الإشكالية التاريخ أكثر سهولة للدخول في معركة مغالبة العقل ومحاورته»-153-.
ورفع مستوى مفهوم التغيير من كونه مقتضى اجتماعياً إلى معطى فلسفي يتعلق بالوجود والحقيقة والذات.
وبذلك تحولت مسألة «تعليم الفتاة في السعودية» من قضية اجتماعية إلى إشكالية فكرية وفلسفية ما بين الخطاب الديني والخطاب التقدمي على مستوى صفة وقيمة الوجود والحقيقة والذات وعلاقاتها بمقتضى التحديث وحدوده وأفقه، وثنائية الصراع الجدلي المستمر بين القديم والجديد.
إذن تحولت قضية تعليم المرأة من كونها مسألة اجتماعية إلى سؤال «سؤال حضاري ضخم يتصل بأساس النهضة»- فتنة القول، ص12-.
وتحولت مسألة تعليم المرأة إلى مؤسِسة لمنظومة العقل الفتنوي عند المعارضين لها، و مؤسِسة لمنظومة العقل الإصلاحي عند المؤيدين لها.
وهكذا أصبحت هذه المسألة هي «ثوب الصراع والسجال بين القوى المختلفة»-111- كما أصبحت رمزاً للمنطق الحجاجي للإشكالية الفكرية عند العقلين الفتنوي والإصلاحي حوّلت الرؤية للمسألة» من قضية عينية إلى الإطار الرؤيوي العام للحياة، ... وهي إشكالية تضيء المفهوم الأساسي الذي يقوم عليه الخطاب كاملاً»-111-
سواء الفتنوي أو الإصلاحي؛ فقد سعى أصحاب العقلين من خلال جدلية الصراع «لكل فعل ردة فعل تتوازى في المؤثر والأثر» إلى رسم ملامح خطابه من حيث الرؤى والتصورات والمفاهيم، فلا يقتصر على مناقشة.
«قضية المرأة وحدها..، لكنهم يناقشون رؤاهم المتباينة وتصورهم للحياة، ..كما أنهم يُنتجون مفاهيمهم ورؤاهم وعيونهم وعقولهم مشدودة إلى الخطاب الضد، فتأتي كتاباتهم ردة فعل لا فعلاً مستقلاً»-ص111-.
وبالتالي فإن مجموع الخطابات المتضادة كونها تمثل إشكالية تكشف عن مُنحنى المستوى الحضاري للتفكير الاجتماعي نحو المستجدات هي التي تسهم في إعادة بناء المنظومة الفكرية للعقل الحضاري للتفكير الاجتماعي.
ولا شك أن تحديد نوعية ماهية المصطلح يخضع عادة إلى مجموعة من الإجراءات منها المحتوى والعلاقات الوظيفية والأدلة والقوانين والتمثيلات، وتلك الإجراءات هي التي ترسم حقل المصطلح أو ميدان تخصصه، فالمصطلح كما يقول مؤسس علم المصطلح «فوستر» «لا يكتسب قيمته الخاصة إلا داخل حقله المغلق». الذي يحدد كيفيته سواء عبر امتلاكه الطابع الذاتي أو علاقته مع موضوع خارج طابعه الذاتي أو علاقته مع المدرك المؤول ومعطيات وجوده كواقع والقوانين التي تتحرك في ضوئه تلك المعطيات كمستويات مختلفة مستوى إمكان أو مستوى واقعة أو مستوى علة وعقل.
و»العقل الفتنوي» كمصطلح فلسفي عند الوشمي اعتمد على مسألة «تعليم الفتاة في السعودية» كقضية وإشكالية.
وبذلك سنقف أمام مفهومين شكّلا العقل الفتنوي كما شكّلا العقل الإصلاحي، وهما مفهوم القضية ومفهوم الإشكالية وخصائصهما.
لا شك أن ليس من الضرورة أن تتحول كل قضية إلى إشكالية، لكن من الضرورة أن تحتوي كل إشكالية على قضية، وضبط التفريق هنا يعتمد على خصائص القضية التي تبني هيكل الإشكالية، فهي تحتوي على مجموعة من الأفكار المختلفة التي تؤسس وحدة فكرية لقضية مستقلة.
صحيح أن نوعية التمثيل التي يقدمها خطاب التحليل تشترط المحافظة على هوية التمثيل كما وردت في الوقائع، لكنه شرط غير ضروري وغير ملزم لمحرر الخطاب، لأن انتقال الواقعة من الحيز التداولي إلى التفكير التنظيري يضيف للواقعة التداولية علاقات وظيفية مختلفة أو يستفيد من الخاصية التي تملكها الواقعة التداولية وهي تحكمّها في قوتين إنجازيتين، فعل انجازي مباشر حاصل آخر غير مباشر، وبذلك فالفاعلية التداولية هي حاصل المنظومة العرفية، مما يجعل التنظير هو البحث عن إستراتيجية فكرية وحجاجية للواقعة التداولية لتطابق القول مع المقصد، أي تحويل الواقعة التداولية كممثل لقضية إلى إشكالية فكرية.
فالقضية الإشكالية لا بد أن تتضمن كواقعة تداولية نمطين من العلاقات؛ العلاقات بين الوقائع والعلاقات بين الأشياء، وكلا نوعي العلاقات يتحرك وفق سلم التصور والحدس والعادة وذلك السلم هو الذي يصنع العناصر البانية للمجال الإيديولوجي والتي تقوم بوظيفة كما يقول جابر عصفور مواجهة «مشكلات وتساؤلات... على نحو يتكشف عن إطار داخلي لبنية توحد كل العناصر».
وبذلك يصبح من خصائص القضية الإشكالية أنها «تجمع بين المتناقضات في سياق أيديولوجي معين».
وذلك السياق هو الذي يدفع القضية إلى إنتاج كما يرى الدكتور محمد عابد الجابري «منظومة من العلاقات التي تنسجها -داخل فكر معين- مشاكل عديدة مترابطة لا تتوافر إمكانية حلها منفردة، ولا تقبل الحل –من الناحية النظرية- إلا في إطار عام يشملها جميعاً، ...، تفسح المجال بالتالي لميلاد إشكالية أو إشكاليات جديدة أكثر غنى وأكثر استجابة لخط التطور والتقدم».
ومنظومات العلاقات التي تُنتجها القضية الإشكالية تعتمد على أنها تملك وظيفة تمثيلية ومعايير للتطبيق التعييني الذي يُتيح تحليل الواقعة التداولية كجدلية صراع مع الآخر، وباعتبار أن الانتقال من العييني إلى المعقول «قاعدة لكل تمييز واقعي للفكر» والكيفية التي تمنح مدرك المؤوِل الإطار التصويري لقيمة وصفة الأشياء.
وبذلك فكل قضية إشكالية تملك عناصر العلاقة «الموضوع والكيفية والتمثيل» وعناصر الفكر «التأويل والنسبة والتمثيل والعلاقة والكيفية»، وهي العناصر التي تحول الواقعة التداولية إلى إستراتيجية فكرية، تسهم في إعادة تكوين أو صياغة القوانين الذهنية المتحكمة في معطيات حقول العلاقات وتجديد تعيين صلاحية الأفكار العامة وتركيبها داخل مجموع نظامي جديد.
وهكذا تصبح منظومة التكّون هي مجموع القواعد والأصول التي يمارس الخطاب من خلالها تشكيل الوحدات النسقية التي تؤسس إستراتيجية بناء المفاهيم أو إعادة صياغتها لتتناسب مع صفة الصيرورة من حيث التطابق والتوافق اللذين يعيدان تشكيل عناصر وحدة القضية «العادة والاعتقاد والفعل» على مستوى السلوك والموضوعات وأنماط التعبير.
جدة