تقديم المترجم:
يصدر هذا التقرير في الوقت الملائم في نظري لينهي الجدل والبطر اللفظي حول إشكالية "الليبرالية الديمقراطية" من جهتين : أولا: كممارسة وآلية للحكم لم تنجح مطلقا في العالم العربي، وثانيا -وهذا الأخطر- ك"فكرة" و"إيديولوجية" جذابة يتشدق بها بعض المثقفين والمفكرين العرب المتمردين على تركيبة وطبيعة مجتمعاتهم المعقدة والتي لا تلائمها بالضرورة الآلية "الليبرالية الديمقراطية" الممارسة في الغرب حيث نشأت في ظروف وبيئة مختلفة. وهذا التقرير قد يعتبره البعض يطلق رصاصة الرحمة على الفكرة الليبرالية التي اجتاحت العباد والبلاد خاصة ذات المجتمعات التي تتميز بالمحافظة الدينية والتركيبة القبلية. ونشر هذا التقرير الهام في مجلة "إيكونوميست" البريطانية العريقة في العدد الصادر بتاريخ 9-15 يناير 2010. ولم يذكر اسم كاتب التقرير ولكن المجلة نسبته بالكامل ل"وكالة فرانس برسAFP" للأنباء الشهيرة التي تعتبر أقدم مؤسسة للأخبار في العالم حيث تأسست عام 1835 وتتمتع بمصداقية هائلة نعجز وصفها. وعناوين الفقرات من اختيار المترجم وكذلك الكلمات التي بين (قوسين). ونلفت انتباه القراء لأهمية آخر فقرة في التقرير التي تتحدث عن العامل الأفغاني الأمي الجاهل "جامشيد" وفلسفته البسيطة التي تعبر عن رأي شعوب العالم الثالث في "الليبرالية الديمقراطية" التي هزمت بسهولة واختزال مدهشين -بحسب التقرير- "نظرية فوكوياما".
نص التقرير
أكثر من أي وقت مضى منذ نهاية الحرب الباردة، أصبحت "الديمقراطية الليبرالية" تحتاج بقوة إلى من يدافع عنها..
هذا التحذير صدر مؤخرا من قبل المستر آرك بادينغتون (ص1)، وهو مناضل أمريكي مخضرم للحقوق المدنية والسياسية في جميع أنحاء العالم والذي يشغل منصب مدير البحوث في منظمة فريدوم هاوس (ص 2) وهي منظمة عالمية غير حكومية وغير ربحية أسسها ناشطون في مجال حقوق الإنسان عام 1941 وترصد وتراقب التحولات الديمقراطية والحرية في العالم ويقع مركزها الرئيس في واشنطن دي سي.
أصبحت أسباب قلق المستر بادينغتون هذا الأسبوع أكثر وضوحا بعدما وجدت منظمة "فريدوم هاوس" في آخر تقييم سنوي لها أن الحرية وحقوق الإنسان قد تراجعت عالميا للسنة الرابعة على التوالي. وقالت "فريدوم هاوس" في أحدث تقرير لها عن العام 2009: إن هذا الوقت (أي 4 سنوات) يمثل أطول فترة تراجعت فيها الحرية منذ بدأت منظمة فريدوم هاوس إصدار تقاريرها قبل حوالي 40 عاماً.
الأنظمة الاستبدادية أكثر ثقة وتأثيراً
منظمة فريدوم هاوس تصنف البلدان بأنها "حرة"، "حرة جزئيا" أو "غير حرة" بواسطة مجموعة من المؤشرات التي تعبر عن إيمانها بأن الحرية السياسية وحقوق الإنسان مرتبطتان. البلدان يتم تقييمها من حيث وجود آليات ديمقراطية هامة مثل "نزاهة القضاة" و"استقلال النقابات العمالية"، فضلا عن "استقامة النظم الانتخابية". ومن بين أهم النتائج الأخيرة، أن الأنظمة الاستبدادية ليست مجرد أكثر عددا بل أكثر ثقة وتأثيراً.
الأرقام تتحدث
في تقريرها بعنوان "الحرية في العالم عام 2010: تآكل عالمي للحرية"، الذي يمكن قراءته بالعربية والإنجليزية على هذا الرابط:
http://www.freedomhouse.org/template.cfm?page=505
وجدت "فريدوم هاوس" أن الانخفاضات في الحرية سجلت العام الماضي في 40 بلداً في أفريقيا وأمريكا اللاتينية، والشرق الأوسط والاتحاد السوفياتي السابق. في حين سجلت الحرية مكاسب في 16 بلدا فقط. انخفض عدد الديمقراطيات الانتخابية ثلاثة دول إلى 116دولة بعد خروج هندوراس ومدغشقر وموزمبيق والنيجر من القائمة في حين عادت جزر المالديف إلى القائمة مجددا. وهذا يجعل عدد الدول الديمقراطية عند أدنى مستوياته منذ عام 1995، رغم أنه لا يزال تماما وبسهولة مريحة فوق مستوى القمة لعام 1990 وهو 69 دولة.
تحول نحو الأسوأ
عندما تؤخذ النتائج ككل، فإنها تشير إلى تحول كبير نحو الأسوأ منذ بلوغ القمة قبل أكثر من 20 عاماً أي تحديداً بعد انهيار الاتحاد السوفيتي الشيوعي، بالإضافة إلى سقوط نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، مما أدى لإقناع الناس بأن الديمقراطية الليبرالية ستسود العالم من أجل الخير. وبالنسبة لمفكرين مثل الأمريكي فرانسيس فوكوياما، كان ذلك هو الوقت الذي أصبح واضحا أن الحرية السياسية مدعوما بالحرية الاقتصادية يمثل المرحلة النهائية في تنمية المجتمع البشري: أي "نهاية التاريخ"، على الأقل من الناحية الأخلاقية.
في الأيام الأولى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، غرقت روسيا (ص 3) وبعض جيرانها بالمستشارين الغربيين الذين لا ينشرون فقط أساسيات اقتصاد السوق، ولكن أيضا آليات الديمقراطية متعددة الأحزاب. ولفترة قصيرة، وجد هؤلاء الخبراء مستمعين كثيرين مستعدين للإصغاء.
تبادل الخبرات بين الدول الشمولية
لدعم بعضها
ولكن اليوم، أصبحت فكرة أن يأخذ المسؤولون السياسيون في البلدان الشيوعية سابقا، دروس متواضعة في التعددية والديمقراطية من نظرائهم الغربيين تبدو مثيرة للضحك. بل هناك أدلة واضحة أن الديكتاتوريين أصبحوا يتبادلون النصائح والخبرات بينهم بكثرة وجدية. في أكتوبر الماضي على سبيل المثال، عقد "حزب روسيا المتحدة" الموالي للكرملين آخر اجتماع مغلق مع "الحزب الشيوعي الصيني" الذي يحكم جمهورية الصين الشعبية (ص 4). وعلى الرغم من التباين الكبير بين البلدين، لا يعتقد معظم الناس في روسيا أن هناك نموذج صيني ناجح يمكن بسهولة تطبيقه وتقليده، بل يهتم "حزب روسيا المتحدة" فقط بالخبرة الصينية الناجحة حتى الآن في "بناء نظام سياسي يهيمن عليه حزب سياسي واحد"، وفقا لتصريح خاص بنا من أحد من حضروا ذلك الاجتماع الهام والمغلق.
أيضا... تراجع "فكري" خطير لليبرالية الديمقراطية
بالنسبة للناشطين الحقوقيين والمراقبين في الغرب، الشيء المقلق في الأمر هو أن قضية الليبرالية الديمقراطية ليست مجرد معاناتها من تراجعات سياسية، بل هو أيضا في تراجعها "الفكري" وهذا أخطر بكثير من التراجع التطبيقي. البلدان "شبه الحرة" بعد أن أصبحت غير متيقنة من الاتجاه الذي يجب السير فيه، تبدو أقل قناعة بأن المسار "الليبرالي الديمقراطي" هو طريق مستقبل. وفي الغرب صار صانعو الرأي العام أسرع للاعتراف بما صار يسمى "سلبيات الديمقراطية"، والحقيقة الواضحة أن الانتخابات "المتنازع عليها" بسب اتهامات بالتزوير وخلافها من مزاعم تسبب ضررا أكثر من نفعها المتوقع عندما تغيب الشروط اللازمة الأخرى لضمان حسن سير النظام. وإنها لعلامة من علامات العصر أن الصحافي البريطاني المرموق، همفري هاوكسلي، كان قد ألف كتابا هاما يتساءل فيه بجرأة عن جدوى "الليبرالية الديمقراطية" بعنوان مثير: "الديمقراطية تقتل: ما الجيد في نظام الاقتراع؟" (ص5).
وهناك حجة أكثر دقة ضد الترويج لديمقراطية انتخابية على حساب أهداف أخرى حيث يؤكد البروفسور بول كوليير من جامعة أكسفورد (ص 6)، أن الديمقراطية في غياب مستحقات أخرى مثل "سيادة القانون" يمكن أن تعرقل تقدم البلاد!! مارك مالوك براون، وهو رئيس سابق لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، لا يزال مؤمنا في الديمقراطية باعتبارها دافعا لتحقيق التقدم الاقتصادي، لكنه يعتقد بصدق أنه في بلدان مثل أفغانستان، فإن الغرب ركز كثيرا على إجراءات مثل "انتخابات متعددة الأحزاب" ولم يكن منفتحا بما يكفي لفكرة أن أنواعا أخرى من "توافق الآراء" قد تكون موجودة بالفعل من قبل وتعمل بصورة أفضل من "الليبرالية الديمقراطية" بالنسبة لبلد بمثل طبيعة وتركيبة وخلفية أفغانستان. في جامعة كاليفورنيا، راندال بيرينبوم يدافع عن "نموذج شرق آسيا"، التي يعتمد على فكرة أن تحقيق التنمية الاقتصادية يسبق طبيعيا وبالضرورة السعي نحو الليبرالية الديمقراطية.
تأثير غزو العراق على
الديمقراطية الليبرالية
مهما قد يقول المثقفون، هناك بعض الأسباب الواضحة تجعل حماس بعض الحكومات الغربية من أجل تعزيز الديمقراطية، واستعداد دول أخرى للاستماع لمروجيها ينحسر. في كثير من الأوساط بما في ذلك الدول الغربية نفسها، كان الاعتداء على عراق صدام حسين، ونتائجه الدموية، وكأنه تأكيد شكوك الشعوب في أن تعزيز الديمقراطية كهدف للخارجية الأميركية، كان غير مدروسا أو مجرد نكتة ساخرة وسخيفة.
في أفغانستان وهي البلد الآخر التي شن تحالف تقوده أمريكا باسم الديمقراطية، سببت انتخابات العام الماضي إحراجاً كبيرا لهذا الفريق نظرا لما تضمنته من عيوب، وفساد، ومخادعة من النخب السياسية المحلية.
وفي الشرق الأوسط، خفت حماس أميركا لتعزيز الديمقراطية بعد الانتخابات الفلسطينية لعام 2006، والتي جلبت "حركة حماس" إلى السلطة. كما تضاءلت "القوة الناعمة" (أي القوة الاقتصادية) للاتحاد الأوروبي على حافته الشرقية بسبب الإجهاد الناتج عن التوسع بعد سقوط الإتحاد السوفيتي.
بروز نموذج الصين يساهم في تدهور الديمقراطية الليبرالية
ولكن ربما كان أكبر سبب لتضاؤل جاذبية الفكرة الديمقراطية الليبرالية كان صعود الصين الاقتصادي والابتكاري بنجاح مذهل رغم كونها ذات نظام شمولي، واعتقاد مقلديها أنه يمكنهم خلق ديناميكية اقتصادية دون تخفيف قبضتهم على السلطة السياسية. وفي الخطاب السياسي لكثير من الحكومات الاستبدادية، بدى الافتتان بتقليد نموذج "خدعة الصين" واضحا بطريقة لا يمكن التغاضي عنها ولا التساهل بها.
إيران الإسلامية تستعين بنموذج الصين الشمولي للسيطرة على مواطنيها
فعلى سبيل المثال، هناك حديث سوريا البعثية عن "اقتصاد السوق الاشتراكي" الذي من شأنه تحفيز النمو مع الحفاظ على الاستقرار. وهناك فيتنام الشيوعية التي احتذت بالإصلاح الاقتصادي في الصين في الإصلاحات، لكنها كانت واحدة من الدول التي وبختها "فريدوم هاوس" بسبب تراجع الحريات. كما أن إيران استدعت خبراء قانونيين واقتصاديين صينيين. ولكن رغم هذا التعاون، هناك بالفعل حدود لما يمكن لجمهورية الإسلامية ودولة شيوعية أن يتشاركا فيه، ولكن يبدو أنهم يتفقون تماما وبوضوح على ما يجب تفاديه: "الحرية على النمط الغربي".
وحتى كوبا التي بينما تتشبث بالماركسية حتى الآن، بدأت تهتم بإصلاحات الصين الاقتصادية. ومن وجهة نظر العديد من البلدان الفقيرة، ولاسيما الإفريقية فإن التعاون مع الصين -اقتصادياً وسياسياً- له العديد من المزايا ليس أقلها: أن الصين لا تصدع رؤوسهم بإلقاء المحاضرات الوعظية عليها عن "الحرية السياسية" و"حقوق الإنسان"!!!
ثبات الصين في الأزمات
الاقتصادية العالمية
التباطؤ والكساد الاقتصادي العالمي، وقدرة النظام الصيني الفذة على النجاة من الكوارث الاقتصادية العالمية، من الواضح أنه أضاف جاذبية كبيرة لتجربة الصين الشمولية. قوة الصين المتزايدة، وبالتالي عدم اهتمامها بحقوق الإنسان مطلقا، أصبح واضحاً في آسيا الوسطى. ولكن كما يلاحظ المنشقون فكريا من مروجي الديمقراطية الليبرالية في المنطقة: الأمر ليس مجرد قوة النفوذ الصيني الذي يجعل الحياة صعبة بالنسبة لهم، بل هو أيضا تردد وضعف الحكومات الغربية التي غالبا ما تخفف اهتماماتها الأخلاقية خوفا من ضياع المصالح التجارية.
الجدل بضرورة توفير مناخ
"الجدل والنقاش" المفتوح
ونظرا لكون "الديمقراطية الليبرالية" ليس مرجحا أن تتقدم في هذه الأيام حتى عن طريق التفوق العسكري أو الاقتصادي للغرب، فإن أملها الوحيد يكمن في التفوق في مناقشة مفتوحة بصورة حقيقية. وبعبارة أخرى، يجب أن تقتنع البلدان والمجتمعات المتشككة في جدوى الحرية، وبأن الحرية السياسية تعمل وتنتج بالفعل على نحو أفضل.
لذلك فالسؤال الهام الآن: كيف يمكن لقضية الدفاع عن جدوى الديمقراطية الصمود في هذه الأيام؟ وكما لاحظ الكثير من الفلاسفة: أقوى نقاط الدفاع عن المنافسة السياسية الحرة هي في الغالب "سلبية". الديمقراطية قد لا تنتج سياسات مثالية، لكنها أفضل حماية ضد كل أنواع الشرور، من "الاستبداد الصريح" إلى "السرقة" على حساب الشعب.
منظمة "الشفافية الدولية" وهي هيئة رقابية عالمية عن الفساد تقول إن جميع الدول باستثناء اثنتين من 30 بلدا هي الأقل فسادا في العالم هي ديمقراطيات. والاستثناءان المقصودان هما سنغافورة وهونغ كونغ، وهما تعتبران دول "شبه ديمقراطية". الأنظمة الأوتوقراطية (الدكتاتورية) تميل إلى شغل مركز أعلى بكثير على مقياس الفساد (الصين في مكان ما في الوسط). ومن السهل أن نعرف لماذا. النخب السياسية الراسخة في هذه الأنظمة الأوتوقراطية والذين لا تزعجهم انتخابات حرة ونزيهة، يمكنها أن تفلت بسهولة أكبر من المحاسبة عندما يحشون جيوبهم بالمال. والأقوياء في كثير من الأحيان يحاولون الحفاظ على سيطرتهم على السلطة عن طريق الاعتماد على الأموال العامة لمكافأة مؤيديهم ولشراء أعدائهم، مما يؤدي إلى سوء توزيع للموارد بصورة فجة.
ومع ذلك، فمن السهل العثور على ديمقراطيات ليبرالية فاسدة. في الواقع، في مكان متداع وممزق مثل أفغانستان تبدو الانتخابات أحيانا أنها تجعل الأمور أكثر سوءا. أو لنأخذ أكبر دولة من الجمهوريات السوفيتية السابقة: "روسيا" دولة استبدادية وتعاني من فساد كبير. "أوكرانيا" الأكثر ديمقراطية من روسيا ستكون الانتخابات المقبلة فيها منافسة حقيقية على السلطة ولا يمكن التنبؤ بنتائجها ولكنها أيضا تعاني من مشكلة فساد كبيرة. "أوكرانيا" لا يوجد لديها "كرملين"، شاهرا سلطته على جميع القادمين، ولكن ذلك لا يجعلها نظيفة أو محكومة بطريقة جيدة.
يتبع
المغرب