محمد العجيان في جريدة اليوم:
* مضت بنا الأيام في جريدة اليوم، وساءنا كمحررين ومتعاونين في الجريدة تعيين الأستاذ « محمد العجيان « رئيساً لتحريرها في أواخر عام 76م، ولكن «العلي» الذي كان مرشحا لهذا المنصب، طمأننا بأن هذا الصحفي المحترف قادر على تطوير الجريدة ووضعها في موقعها المناسب، أفضل منا جميعاً!
وذلك ما حدث بالفعل.
* تحمّس الأستاذ «العجيان « لمشروعٍ كنا نحلم به، كأدباء، وكان يتبناه الأستاذ «العلي» والشاعر عبد الكريم حسين، مدير الإدارة، لإصدار مجلة أدبية بعنوان « أصوات»، فحوّله من مجرد فكرة إلى برنامج عمل قابل للبحث والتخطيط والتنفيذ. واقترح الأستاذ العجيان علينا زيارة عدد من أصحاب المشاريع الثقافية والأدبية المماثلة في المملكة ودول الخليج، فذهبنا لزيارة مجلة الدوحة في قطر للتعرف على تجربتها، ثم إلى البحرين للتعرف على تجربة مجلة « كتابات76» التي أنشأها الشاعر « علي خليفة «، وسافرنا بعدها إلى الكويت للتعرف على تجربة رابطة الأدباء في إصدار مجلتها «البيان».
وإلى الرياض ذهبنا لمقابلة الأستاذ علوي الصافي رئيس تحرير مجلة «الفيصل»، ثم التقينا بعدد من الأدباء وأساتذة النقد الأدبي في ثلوثية الأستاذ « عبد العزيز الرفاعي» ودعوناهم للكتابة لمجلة « أصوات»، ووافق الأستاذ محمد رضا نصر الله والشاعر عبد الكريم العودة لأن يكونا عضوين في هيئة تحرير المجلة، كما سافرنا إلى جدة والتقينا بالعديد من المثقفين والأدباء لدعوتهم للكتابة للمجلة ومن أبرزهم الدكتور عبد الله مناع، والأستاذ الراحل عبد الله سعيد الغامدي، واتفقنا مع القاص والكاتب فهد الخليوي والقاص عبد الله بامحرز ليكونا عضوين في هيئة التحرير، ونسقنا معهما على إجراء حوار ثقافي مع الأستاذ الرائد « محمد حسن عواد» ليكون أول ضيف ثقافي للمجلة في عددها الأول!!
ثم سافرت بعدها في عام 77م إلى بغداد ودمشق والقاهرة لإجراء حوارات أدبية مع عدد من الأدباء والشعراء والنقاد لنشرها في المجلة.
* كان الإعداد لإصدار العدد الأول من مجلة « أصوات» يجري بشكل متفائل، ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان، حين تمت إقالة مدير الإدارة الشاعر «عبد الكريم حسين» وتم تعيين مدير جديد لا تشغله إلا مسألة الربح والخسارة المحددة، فقرر قتل المشروع بالضربة القاضية في أواخر عام77م!!
وقد فوجئنا بتقبّل محمد العلي بروح رياضية عالية لهذا القرار- وهذه من صفات العقلانية والموضوعية التي يتمتع بها أستاذنا العلي إزاء كل المواقف المشابهة - أما نحن المتحمسين لذلك الحلم فقد أصبنا بخيبة أمل كبيرة، لم يحفّف من وقعها علينا إلا اهتمام الأستاذ العجيان بالملحق الثقافي « المربد» الصادر عن الجريدة، وقمنا بعد ذلك بنشر أغلب المواد والحوارات التي أعددناها للوليد المنتظر في هذا الملحق!!
مضى الزمن وفق مقتضاه، وقبيل استقالة الأستاذ العجيان من رئاسة تحرير الجريدة أبلغنا بأنه رشح الأستاذ العلي لرئاسة تحرير الجريدة، فوقفنا أمام المهام الجسام، وأمام التحديات التي لا ينبغي التنازل أمامها، ولعل ذلك حدث في حوالي منتصف عام 78م.
اختلاف الأصدقاء:
لم تحدث بيني وبين أستاذي العلي خصومة قط، ولكن كان بيننا في بعض الأحيان القليلة ما يشبه اختلاف الآباء مع الأبناء، ومن تلك المواقف القليلة أسجّل ما يلي:
أ – ظل مخيال مشروع مجلة « أصوات» يغرينا بالتفكير فيه، لذا وافق محمد العلي كرئيس للتحرير، وبدعم من مخرج الجريدة « حميد غريافي» على إصدار الملحق الثقافي لجريدة اليوم « المربد « كملحق منفصل وبحجم صغير يشابه حجم هذا الملحق المتألق ( ثقافية الجزيرة ) .
وكان المخرج مهنياً بارعاً، ويمتلك حساً صحفياً متميزاً، ويكنّ لبلادنا كل التقدير والاحترام. وكانت له بعض المواهب الشعرية العادية، فعرض عليّ نشر قصيدته المعنونة ب « مزقيه» (يقصد غطاء وجه المرأة) في أول عدد من «المربد» المنفصل عن الجريدة، وقد راجعت النصّ وأبلغته أنه لا يمكن لنا نشره، وقد جادلني طوال مساء تلك الليلة حول مفهومه لحجاب المرأة من وجهة نظر إسلامية، وأن النص لا يعدو القول بحق المرأة بأن تكشف وجهها وفق الضوابط الإسلامية، وبعد هذا الصراع الطويل معه، قلت له إنني أتفق مع طرحك حيال مفهوم الحجاب، ولكنني في ظروفنا المعاشة لا أوافق على نشره، أما إذا كنت مصراً عليه وتتحمل مسئوليته، فأنت مخرج الجريدة وتستطيع فعل ما تشاء!!
أخليت نفسي من المسئولية ومضيت إلى بيتي، ولكنني فوجئت في صباح اليوم التالي باتصال « محمد العلي» بي قائلاً: « وش سويت فينا يا ابن الدميني»؟؟
كيف تجيز نشر هذه القصيدة التي استفزت الشارع المحافظ، ليكتبوا خطابا للجهات المعنية بمحاسبة القائمين على هذه الجريدة والمطالبة بإيقافها؟
كانت تلك الكلمات كافية لشرخ علاقة مضيئة بيننا، ولكنني أوضحت له موقفي، وعمل من جانبه على تجاوز الأزمة فيما لا يسمح المقام بتفصيله الآن!!
وقد تم إيقاف الجريدة عن الصدور لمدة خمسة أيام، وتم استدعاؤه لمقابلة سمو وزير الداخلية الأمير نايف بن عبدالعزيز.
وقد أبلغني « محمد العلي « فيما بعد ببعض تفاصيل ذلك اللقاء،
معبّراً عن امتنانه لسعة صدر الأمير وعمق رؤيته، كما أشاد بإنصات الأمير إلى إجاباته على كل ما وجهه إليه من أسئلة.
ب- نشرنا في « المربد « قصة للكاتبة الكويتية « ليلى أحمد»، وقد تلقى « العلي « تقريعاً من بعض الجهات المسئولة، فدعاني إلى مكتبة، وفتح معي محضر تحقيق، حول نشر القصة!!
وقد أجبته – تحريراً- بالمعنى التالي: لا أرى في القصة ما يدعو إلى منع نشرها من كافة النواحي، كما أننا لا نعرف قوانين مكتوبة نستهدي بها لتحديد ضوابط النشر، وقد قرأت لك مقالات كثيرة منشورة في هذه الجريدة تناولت قضايا أشد حساسية فيما يخص واقع المرأة من هذا النص.
وحين أنهيت إجابتي قدمتها له، وكان وجهه متجهماً، فقرأ إجابتي بتأن شديد، ثم تطلّع إليّ وأطلق ضحكة مدوية، وقال لي وهو يمزق الورقة : قاتلك الله!!
ج – كان الدكتور «حمد المرزوقي» قد عاد من أمريكا بعد حصوله على الدكتوراه، كأحد أعلام الكتابة الصحفية في تلك المرحلة (عام 79م)، وخاصة فيما كتبه في زاويته الشهيرة بمجلة اليمامة «أوراق وطنية»، وقد سعى كما سعينا للالتقاء ببعضنا، فزارنا في الدمام، ونمت بيننا علاقة صداقة حميمية، ثم التقينا في ندوة في «جمعية الثقافة والفنون» بالإحساء.. وفي لقاء العشاء الطويل حدث سوء فهم بيني وبين الدكتور المرزوقي، استثار غضبه عليّ بشكل أفسد جمالية اللقاء، وعلى إثرها غضب مني محمد العلي غضبة مضرية، لم يستطع تجاوزها حتى حاكمني على تلك الليلة أمام بعض الأصدقاء الخلّص، في ليلة خاصة، احتفظوا بها كوشم مسيء لي في الذاكرة!!
ربما تكون هذه الوقفات العاجلة هي أبرز محطات اختلافاتنا، ولكنها ببساطتها أو بجراحها العائلية، لم تترك شيئاً في الوجدان أو الضمير، ومضت كغبار عابر فوق الماء وليس على الماء!!
محمد العلي ومشروعه الثقافي:
يمتلك العلي وباستحقاق، مقومات رائد مشروع ثقافي، من خلال توفره على المقومات التالية:
* - عدة معرفية قارئة للتراث الثقافي والمعاصر، ومنفتحة على الحداثة.
* رؤية جدلية لتحليل الواقع، ورؤيا متشوفة لآفاق المستقبل.
* ملكة ثقافية نقدية وشكّاكة وشجاعة وتستطيع وضع ذاتها بقدر من الحيادية الابستيمولوجية حيال الإشكاليات التي تتناولها.
ولكن هذه الملكات لا يمكن أن تشتغل لوحدها، حيث لا بد من توفر عنصرين مهمين هما:
* مناخ ثقافي وقانوني قادر على حماية حق التعبير والتفكير ومساءلة وتفكيك أوهام القناعات والقراءات الثقافية والاجتماعية السائدة.
* حراك ثقافي حيوي يحرض المثقف على إنتاج مرتكزات مشروعه، والعمل على تطويره، والدفاع عنه، وفق ضوابط الحرية المسئولة.
لقد عاد «العلي « من العراق إلى قلب الوطن، وسلك كل السبل الممكنة لأن يكون المثقف الوطني جزءاً حياً من نسيج المجتمع، لكي يمارس دوره، لا محباً خاملاً، ولا انتهازياً مستمتعاً، وإنما كمثقف نقدي وعضوي، وعلى كافة المستويات المتاحة والمحفوفة بالمخاطر أيضاً!!
غير أن المناخ الثقافي لم يكن ناضجاً في تلك الفترات البعيدة منذ منتصف الستيينيات، كما هو اليوم، لقبول الرؤى النقدية المختلفة،، فاضطر العلي للتعبير عن حيوية مكوناته وقناعاته بالكتابة الصحفية، عبر زاويته في جريدة « اليوم»، وغيرها من صحف بلادنا، ومن خلال ما تخلّق بعد ذلك من محاضراته وقصائده المؤسسة لمناخ حساسية شعرية وثقافية جديدة في بلادنا .
كانت إمكانات»العلي» الثقافية أكبر من محيطها، وكان المحيط – بمعناه الواسع - عائقاً، فاكتفى بإشعال قناديله الجميلة في كثير من الأمكنة والقلوب، وبالكتابة عبر الصحف، ولنا فيما تم تجميعه منها ما يعين دارسها المتعمق أو العادي، لأن يجد فيها مكونات مشروع «محمد العلي» الثقافي الحي، والمجهض أيضاً! ويمكننا بعد هذا أن نقول: أن محمد العلي إنسان وكاتب ومبدع ،عصي على التأطير،.. فسيح كبحر.. ومجادل مسكون بالسؤال، وبالقدرة على موضعة ذاته دائماً خارج « الأقواس».
ولذا وجدناه واحداً من أكثر المتشككين في صحة التعريفات الجامعة المانعة، بل ومن أشدّ الخارجين على صنمية تعريفاتها القارة. فنقرأ ذلك في محاضراته مثلما في كتابته اليومية أو الأسبوعية للصحف، والتي أصبحت جزءاً جوهرياً من حياته، لا يستطيع التوقف عنها، ولكنه -دائماً- لا يكتب إلا قناعاته التي أتقن عبر ممارسة كتابتها، مهارة الإيجاز، والإلغاز، والقدرة على التفاعل مع ما تحفل به ثقافة التراث وثقافة المعاصرة من عناصر حية، ومع ما تستحقه اللحظة الراهنة والمستقبلية من موقف نقدي وتعبيري جديد.
الدمام