ليس ثمة واقع بماهية مجردة من الدلالة والتأويل، وأن تدرك الواقع يعني أنك تتخذ زاوية نظر وموقف فهم معين، لكنك في كل الأحوال لا تبتدئ الموقف ولا تبتدر النظر أو تبتكر المعنى، فالجهل نفسه ليس فراغاً معرفياً كما يقول باشلار (-1962م)، إنه كثافة وامتلاء، و»كل حقيقة هي خطأ مصحح». وهذا يعني أن الواقع الذي قال عنه جاك لاكان «هو الموجود هناك أصلاً» ليس فيه من الواقع إلا ما فاضت به دلالة الذات عليه أو دلالته على الذات، فهو واقع بدلالة وتمثُّل وقيمة، ودرجة الصفر التي يخلو فيها الواقع من المفهوم أو التصور، أو ما يمكن أن نسميه الواقع الخام لا يمكن حسبانه واقعاً إلا حين يؤول إلى دلالة.
ولهذا كان تصور كانْت (-1804م) للواقع تصوراً انقلابياً على المستوى الإبيستمولوجي، فالواقع لديه مبني ومصنوع ومركب، وهذا يعني أنه لا ينكر موضوعية الواقع وخارجيته التي تجعل للأشياء والأحداث والظواهر واقعية في ذاتها، وهي ما أنكره العقليون مثل باركلي (-1753م)، لأنه لا يوجد لديهم سوى الأذهان وإدراكاتها. كما لا ينكر دور الذات وملكتها العقلية التي تنتج التصورات والمفاهيم وتنظمها، وهي ما أنكره التجريبيون مثل لوك (-1704م)، فهناك عالم من المادة مستقل لديهم عن أذهاننا المدرِكة. وإنما يرى كانت أن أذهاننا تصنع الواقع وتبنيه، من خلال ما تضفيه من تنظيم ومعنى على الإحساسات التي تتدفق عنه؛ وإذن، فما نعرفه عن الواقع هو ما يتكشف من البناء والتركيب الخاص بالذهن ذاته.
هذا الواقع المبني ليس مبنياً من الحقائق العلمية المبرهنة فقط، بل مبني منها ومن غيرها، فهو مجموع الخطابات التي يعيشها المجتمع، فيه الحقيقة وفيه الوهم، وفيه حقيقة العلم وحقيقة الإيديولوجيا، والمعرفة العامية والمعرفة العلمية، والحقائق المشروطة بالسلطة والرغبة إلى جوار الحقائق الحرة والعارية من الشروط، وفيه القياس العلمي والقياس الخطابي والشعري، وفيه المعقول واللامعقول. وبالطبع فلكل مجتمع واقعُه مثلما لكل مجتمع حقيقته أو حقائقه، بل لكل فرد واقعُه وله حقيقته التي تعني خصوصية ما يحمله من دلالة وتمثُّل للمنظومة التي يعيش فيها. وهكذا يتجلى الصراع الذي يتركب معه الواقع ويتعقد، لأنه صراع في مستوى المعاني والدلالات التي لا تنفك عن الرغبة.
وأول نتيجة لهذا التصور أن الواقع ليس معطى ناجزاً ونهائياً، فهو مفتوح على التغير والتحول والنماء، وثباته يعني خروجه من دائرة الواقعية التي تغدو الوجه الآخر للمعقولية. ولهذا فإن واقعية الواقع حركة لا سكون، وتغير لا ثبات، واختلاف لا وحدة، ومستقبل لا ماض. وما ينزع عن الواقع واقعيته أن يصبح مثالاً، والمثالية كمال وتبلور وارتفاع، أو أن يصبح مطلقاً والمطلقات فوق كل نسبية تحكُم طاقة الإنسان ومعرفته. الواقع نسبي لا مطلق، وناقص لا كامل، وفي طور الإعداد والنشوء والتشكُّل لا التبلور والتمام والانتهاء.
ويقتضي هذا بالضرورة أن العقل الذي يغدو الواقع مفعوله بقدر ما يغدو هو مفعول الواقع، غير ناجز ونهائي وليس بنية ثابتة منغلقة تحمل -كما تصورت الفلسفة الكلاسيكية منذ أرسطو- منطقية صورية قائمة من خلال مبدأ الهوية، ومبدأ عدم التناقض، ومبدأ الثالث المرفوع، ومبدأ السببية، فهو -أبداً- في طور التشكل والبناء والتكوُّن. وكان ربط كانت للعقل بالتجربة وليس اعتقاد القيمة المطلقة فيه، هو مدلول تأسيس كانت للعقلانية الحديثة التي أخذت بعد ذلك تنمو بما تجاوز كانت نفسه.
وقد تجلت فاعلية العقل وانفتاحه وديناميته المناقضة للسكون والتمام والانعزال عن الواقع عند هيجل (-1831م) فالعقل لديه قوة تحرك التاريخ ، وهو جوهر التاريخ. وجاءت لدى باشلار صيغة «التركيب المنفتح» لوصف البناء المتبادل بين العقل والواقع، إذ يغدو العقل متغيراً كالواقع، وينتفي عنه الثبات والأحادية، وهو متعدد ومتنوع بتنوع مجالاته وأدواره ومنها دور العقل السجالي الذي لا يكف عن الاعتراض على العقل المعماري.
ومن ثم لم يعد العقل، كما كان في الكلاسيكية، مقابلاً للخيال والوهم والخطأ والهوى والغريزة والجنون والغريب... إلخ. فالأحلام والجنون والعُصَاب مادة بحث ومعالجة لدى فرويد (-1939م) الذي كشف عن معقوليتها، ومعقوليتها هي الوجه المرادف لتفسيرها، فكل فهم أو تفسير لواقعة هو إقرار بما تتضمنه من معقولية، وهذه المعقولية، هي المؤدى لدراسة شتراوس (-2009م) الأساطير والعقل المتوحش، وهي لدى نيتشه (-1900م) أخطاء وأوهام نؤوِّل بها الأشياء بما يقوي شعورنا بالأنا. ولا شك أن ما ينتجه الخيال والوجدان من روائع فنية وأدبية، وما تنطوي عليه الغريزة والهوى من تقنُّع واحتيال... إلخ يوسِّع أمامنا دائرة العقل ويعددها، وهو المعنى نفسه الذي لا فكاك لنا من أن نفهم به وعليه الواقع.
نحن، إذن، لا نعيش بالعلم وحده، تماماً كما لا نعيش بالخبز وحده. والمجتمعات البدائية والجاهلة ليست فارغة من المعنى والدلالة والمفاهيم والتصورات، وليست بلا عقل ومعرفة، بحيث نتصور إناء فارغاً في حاجة إلى من يملؤه. وبالمنظور نفسه ليست المجتمعات الحديثة والمتقدمة ممتلئة بالمعنى والمفاهيم، وممتلئة بالعقل والمعرفة والعلم، وكأن الإناء الفارغ إياه قد امتلأ لديها!. فالمعرفة العلمية ليست تراكماً وليست كماً وعدداً، إنها كيفية تنظيم لا تنتهي، وقراءة تُجَاوِزُ ذاتها باستمرار. ولذلك لا يكاد الواقع في المجتمعات المتخلفة يتغير، لأن المعرفة الإنسانية فيها -بعكس المجتمعات العلمية- لا تنتج، ذاتياً، معرفةً نوعيةً متغيرة.
وأتصور أن المنظورَ النقدي هو أعظم ما أنتجته لنا فلسفة المعرفة الحديثة، تجاه الواقع الإنساني، وأبرز ما أكدته، فعصرنا -كما قال كانت- هو «عصر النقد»، وعلى النقد بمعناه الحديث تأسست نظريات التأويل المعاصرة خصوصاً في تأكيد دور القارئ ومجاوزة الانغلاق في المفاهيم والنصوص. ولهذا أصبحت العلوم الإنسانية كما يصفها هابرماس (1929-) «تاريخية تأويلية». وهذا المكسب النقدي لا يقل عن الوعي بعلاقة المعرفة بالسلطة التي نظَّر لها ميشيل فوكو (-1984م)، وهي علاقة تكشف عن الإرادة للحقيقة من خلال منظومات الاستبعاد والمراقبة والتقسيم وغيرها التي تتحكم في الخطاب وتخترقه بخفاء، وتأبى إلا أن تقنّع الحقيقة التي تريد.
الرياض