تسببت الجوائز الأدبية في امتعاض كثير من الأدباء؛ فبعد إعلان نتائج جائزة ما تبرز ردود أفعال غاضبة، وتتعالى أصوات المعارضين والمحتجين معتبرين لجنة التحكيم هذه أو تلك غير مؤهلة لتقييم الأعمال الأدبية حتى لو كان أعضاؤها من النقاد المعروفين أو الكُتَّاب البارزين، وتبدأ التهم المتكررة بالتحيز وعدم الموضوعية، بل إنّ بعضهم يصرّح بمقال هنا أو رأي هناك بأن عمله الأدبي أعلى من هذه الجائزة، وأن الأعمال الفائزة أقل درجة وقيمة فنية من عمله ومكانته.. وهنا لا تملك إلا الابتسام تارة أو التعجب تارة أخرى؛ فأنت عندما تقرأ هذه التصريحات يستفزك هذا الأديب الذي يقلل من شأن الجائزة بعد أن تقدَّم إليها بإرادته، ثم ينقلب عليها بمجرد خروجه منها؛ إذًا فالمشكلة ليست فقط في لجان التحكيم للجوائز بل في ذهنية فهمنا لقيمة هذه الجائزة وأخلاقيات المشاركة فيها، وهنا تحضر ثقافتنا العربية بإرثها الممتد عبر العصور التي عُرف عنها تشجيع الشعراء والكُتَّاب، والاعتراف بمواهب المبدعين، ولم تكن تعني أبدا تفضيل أديب على آخر بقدر ما كانت ترعى الإبداع، وتشجع غزارة التأليف، وهذا هو الهدف الحقيقي وراء كل جائزة أدبية أو تقديرية، عالمية أو عربية أو محلية، بدءًا من جائزة نوبل ومرورًا بالبوكر أو غيرها من الجوائز العالمية والإقليمية؛ فقد أصبح من الصعب علينا حصرها لكثرتها في السنوات القريبة بشكلٍ غير مسبوق، ولا أحد ينكر دور هذه الجوائز في خدمة الحراك الثقافي؛ فهي تفتح آفاقًا واسعة أمام الكثير من الكُتَّاب والمبدعين وخصوصا الشباب منهم، ولم تعد مقصورة على فرع دون آخر؛ فهناك جوائز للشعر، وأخرى للقصة، وثالثة للرواية، وبعضها للدراسات النقدية، وتوسعت أبواب تلك الجوائز حتى لا يكاد يخلو منها بلد عربي أو غربي، لكن العجيب في الأمر أننا نحن العرب لا نقبل بغير الفوز، فإن هُزمنا فتحنا النار على لجان تلك الجائزة، بل قد يصل الغضب بأحدهم أحيانا إلى المطالبة بسحب الجائزة من الفائز لأنه لا يستحقها، والتشكيك في نزاهة المحكِّمين، والأمثلة على ذلك كثيرة؛ فما عليك إلا أن تفتح الصحف وأنت تتابع نتائج هذه الجائزة أو تلك لتقرأ اعتراضات هائلة من أدباء وكُتّاب ونقاد لو جمعت لحُقّ لنا أن ندخل بها موسوعة جينس، بينما تتأمل الفرق وأنت تتابع في السياق ذاته نتائج الجوائز الغربية؛ فترى النقيض؛ فهناك مَنْ فاز بجائزة (نوبل) ورفضها مثل سارتر الذي فاز بها عام 1964م، وبوريس باسترناك الذي فاز بها عام 1968م، وكلاهما رفض الجائزة رغم قيمتها المعنوية والمادية التي تُعدُّ أهم جائزة عالمية، وغيرهما كثير ممن قرأنا عن رفضهم لجوائز أدبية أو تقديرية، وفي مقابل هؤلاء تجد أنَّ الذين حصلوا على جائزة (نوبل) قالوا: «لقد فزنا مصادفة، وهناك من يستحقها أكثر منّا».. ومضى همنغواي يعدد أسماء الذين يستحقونها أكثر منه حتى ظنوا أنه لن يسكت. فالجوائز لا تصنع كاتبا أو شاعرا؛ فلم تتأثر مكانة كتاب عظماء حفظ التاريخ أعمالهم وأثّر إبداعهم في أجيال بعدهم لأنهم لم يحصلوا على جائزة؛ فظلت مكانة كل من (جيمس جويس، وفلوبير وغيرهما) عالية ولم تتأثر بعدم حصولهم على جائزة ما، ومن تصادف أنه فاز بجائزة وهو لا يستحقها - على حدّ تعبير المعارضين - فلن ترفع درجته، ولن يستمر في الساحة الثقافية وهو غير جدير بها.

وهنا يتضح لنا الاختلاف بين الثقافتين؛ فالثقافة العربية تعاني الآن ازدواجية في النظرة إلى الأدب وقيمته، وفعلا هناك حالة من فوضى الجوائز التي كثرت بشكل لافت للنظر، بل إن بعضها يعاني عشوائية منحها لأسماء لم تقدم في تاريخها ما يستحق؛ لذا يجب مناقشة آليات عمل تلك الجوائز، وطرح معايير واضحة وثابتة للتحكيم بين الأعمال المتقدمة للمنافسة.

ومن المؤكد أن الجائزة تكبر قيمتها بمصداقيتها وحيادها، وهذا ما جلب لبعض الجوائز السمعة العالية، وجعل الكُتَّاب يقبلون على التقدم لها في كل دورة من دوراتها، وللتمثيل لا الحصر جائزة الشيخ زايد للكتاب، وجائزة الشارقة للإبداع، وغيرهما مما اشتهر بمصداقيته في دول عربية أخرى، ولكني أردت بهذا التمثيل الإشارة إلى جائزة لم تتعد دورتها الرابعة منذ نشأتها، لكنها كسبت ثقة الكثير من الكُتَّاب والنقاد والمتابعين لها، فأول ما يميز تلك الجوائز هو سرية أسماء أعضاء لجان التحكيم حتى لحظة إعلان الجائزة، وكذلك - على حد علمي - إخفاء هوية مؤلف الكتاب لضمان مصداقية التحكيم، وهنا لا تتدخل عوامل أخرى في اختيار العمل الفائز إلا لتحقيقه الشروط المطلوبة للفوز، واستحقاقه بجدارة للتأهل والمنافسة بقيمة طرحه، وجودة أسلوبه، ولك أن تطالع تلك الكتب الفائزة في دوراتها السابقة لتلمس بتجرد موضوعية ذلك الاختيار، وجدارة تلك الأعمال بالفوز، ولهذا لن تكون جوائزنا الأدبية العربية أو المحلية ذات قيمة عند الكاتب أو القارئ إلا إذا ارتقت فوق المصلحة، وحددت أهدافًا واضحة لاستمرارها، ووضعت معيارا صادقا للمفاضلة بين المتقدمين لها، ولكن عنصر المجاملة متى حضر في أي مجال كان مؤشرًا خطيرًا لانهياره، والأغرب من ذلك أن تجد أسماء معروفة رضيت بالتحكيم في جوائز كهذه؛ فالمثقف الذي يحترم تاريخه أولا وقارئه ثانيا لا يقبل أن يشترك في لجان يشوب عملها شك وريبة، بل يربأ بنفسه وفكره عن التواطؤ مع المحسوبين على الساحة الثقافية، وهذا لا يعني أبدًا وقوفنا مع الأدباء النائحين والمحتجين بعد كل جائزة، بل هم أيضًا يتحملون قدرًا كبيرًا من المسؤولية في فوضى الجوائز؛ فقد قرأت عن شعراء وكُتّاب من دول عربية مختلفة أنهم تقدموا للجائزة ذاتها التي رفضتهم العام السابق والذي قبله، بل لسنوات عدة يكرر المحاولة نفسها ولا يفوز ثم يخرج للصحافة في كل مرة ليشكك في نزاهة التحكيم، ويعلن اعتراضه على نتائج الجائزة؛ ليتعاطف معه كثير من الكُتَّاب الذين لا يتورعون عن الكتابة هنا، وإبداء الرأي هناك بأنه أحق من غيره بهذه الجائزة، وقد يكون فعلا كذلك، ولكن لماذا يتقدم لها كل عام إذا كان يشكك في موضوعيتها؟ فهنا تنتفي قيمتها الأدبية وحتى التقديرية، ولم يعد للفوز بها قيمة عند ذلك الأديب، إلا إذا كان يتقدّم لها من أجل قيمتها المادية فقط!! وهذا هو الفرق الحقيقي بين جوائزنا العربية والجوائز الغربية؛ فتلك لا تعني لأدبائهم شيئا أكثر من التقدير، ولن تعطي أبدا حكما قيميًا لإبداع هذا الكاتب، أو تحط من قدر غيره، أما الكتّاب العرب فالجائزة بالنسبة لهم تعني ربحًا ماديًا سيدر عليهم أموالا جيدة بعد أن تبيع دار النشر نسخًا عديدة من العمل الفائز؛ لأنّ القارئ العربي يهوى لعبة الغلاف المكتوب عليه (هذا الكتاب حائز جائزة ....) أو عبارة (بيع من هذا الكتاب ملايين النسخ)، وليس معنيا بمضمون ذلك الكتاب أو غيره ممن هو أعلى قيمة من هذا الحاصد للجوائز، وكأن ذلك أصبح قاعدة لتقييم أو تسويق الإبداع؛ ولذا لن نتعاطف مع هذا الكاتب الذي يسعى للجوائز بكل إرادته ثم يصب غضبه عليها لأنها بالطبع خيبت أمله؛ فهو وغيره من الكُتَّاب مَن شجَّع هذه الجوائز على الاستمرار؛ فلو فرضنا أنّ جائزة ما عرف عنها عدم نزاهة لجانها، ودار حول نتائجها لغط كثير، ومع هذا يتقدم لها الكتّاب أكثر من العام السابق، فماذا نسمي هذا؟! هل شجعت معايير التحكيم غير الجادة الأدباء على خوض التجربة في كل مرة اعتمادًا على الحظ والمصادفة؟ قد يكون الجواب نعم في ظل الفراغ الثقافي الذي نعيشه، وغياب النقد الجاد الذي انصرف عن النقد التطبيقي بعد خيبته في تلقي نصوص أدبية قوية.

الجوائز الأدبية بالطبع لها دور كبير في الحراك الثقافي، وإذكاء التنافس الشريف بين المبدعين؛ لتشكل رافدا مهما لإثراء الثقافة العربية بكل فروعها، ولكن هل كل جائزة ينطبق عليها هذا الوصف؟ ولذلك سيكون مهمة فرز هذه الجوائز والتحقق من مصداقيتها والنظر في معاييرها مسؤولية مشتركة بين الناقد والمبدع والقارئ الواعي والمثقف.. علينا الوقوف بوعي أمام هذه الظاهرة؛ فلا نرضى بالتدجين الثقافي أو الاستهانة بعقل المتلقي الذي هو المحور الرئيس في دائرة الجوائز، ومتى سندرب أنفسنا على تلقي الفشل كنجاح؛ فعدم فوز عمل بهذه الجائزة أو تلك لا يعني أبدا التقليل منه، بل قد يكون الأفضل؛ لذا عليه الخروج بسرعة قبل أن يتلوث باسم تلك الجائزة؛ فبعض المبدعين يثق تمامًا بأنّ أعماله ليست للبيع؛ هي خلاصة فكر أراد به التنوير وخدمة العقل، ومتى وصلت أفكاره للقارئ فهذا أقصى ما يتمناه، وكم وقفت أمام عبارة المبدع الاستثنائي غازي القصيبي عندما قرأ ما كتب عن إبداعه في سنوات هي جل عمره، وتفانيه في خدمة من حوله؛ فصدر عنه كتاب كان في نظره يعدل جوائز عالمية حين قال: «لا أظن أنّ حائزًا جائزة نوبل فرح فرحتي بهذا التكريم منقطع النظير.. فليوزعوا نوبل على من شاؤوا.. لقد ظفرت أنا (بنوبلي)!» تلك هي ثقة العظماء حين يرون النقد الجاد والقراءة الصادقة أهم من كل الجوائز، فهل ما زلنا نعوّل على بعض الجوائز؟؟