في أول يوم دراسي بعد عودتنا من إجازة نصف السنة الدراسة خبّرتْنا إدارة المدرسة أن فصلنا قد نُقل إلى الدور الأرضي، سعدنا كثيراً فقد أصبحنا أول الواصلين إلى مقصف المدرسة، قريبين من فناء المدرسة، نوافذ فصلنا تطل على الحديقة، وصُرِف عنا تعب الدرج صعوداً وهبوطاً. رنَّ جرس الحصة الرابعة، أخرجنا كتب اللغة العربية استعداداً لدخول معلمتنا، فإذا بامرأة تتوكّأ على عكازين تدخل لتعلن أنها مدرسة اللغة العربية، وأن أستاذتنا القديمة ستكتفي بتدريس الصفين السادس والخامس. قالت لستُ غريبة، درَستُ هنا في طفولتي فعائلتي تسكن في هذا الحي، ولما كبرت وبسبب الزوج انتقلت إلى حي آخر، وهأنذا أعود إلى مدرستي الابتدائية بعد عودتي للإقامة مرة أخرى مع أسرتي.
قررتْ أن تكون الحصة للتعارف والدردشة بما أنها أول مرة تدخل علينا، بدأت تسأل كل واحدة عن اسمها، وأين قضت إجازتها؟ وكيف؟ جاء دوري فقامت من مقعدها تتعكّز إلى حيث أجلس، فحصتني بنظرات غريبة، قلت اسمي وأننا قضينا العطلة في رحلة سياحية بالسيارة تجوالاً في مناطق المملكة، نظراتها المريبة ما زالت مسلطة عليَّ مع إنصاتها لحديثي.
في إحدى حصص التعبير طلبت منا كتابة موضوع عن مساعدة الآخرين، وكان دفتري أول ما تناولتْه، ورمته بعنف وقالت بصوت حاد خفيض: كاذبة. جميع صديقاتي كتبن مثلي، يجب أن نساعد الفقراء ونعطيهم الطعام والكساء ونزور المرضى في مشافيهم؛ فعنوان الموضوع وعناصره تحتم التقيُّد بها، هل كان عليَّ مخالفة العناصر وكتابة ما يناقضها؛ من صراخٍ في وجه الضعيف وحرمانٍ للفقير، وترك العاجزين يواجهون المخاطر.
ذات يوم طلبت مني أن أتأخر غداً في الخروج؛ هو موعد مناوبتها، طلبتني للمساعدة في تسيير خروج الطالبات. في الغد وعند خروج آخر طالبة من المدرسة، اسْتَأذنتها في المغادرة إلى بيتنا القريب، استسمحتني أولاً في مصاحبتها إلى غرفة المدرسات في حاجة ملحة، وهناك احتجزتني؛ بقفل باب الغرفة بالمفتاح، وانهالت عليَّ ضرباً بإحدى عكازتيها؛ ترفع العكازة عالياً وتهوي بها على جسد الصغير، الرعب فاق على الألم؛ فلم أشعر بالوجع بقدر شعوري بالهلع. عصبيتها وهياجها أفقداها التوازن، والسيطرة على تمركز العكازة الأخرى مع نوعية البلاط الزلقة؛ فتهاوتْ ساقطة على الأرض، فأسرعتُ وسحبت العكازين من الأرض، وأخذت المفتاح واتجهت إلى الباب المقفول أدرت المفتاح، ثم أخذته، وخرجت مغلقة عليها الغرفة بدورتين من المفتاح، ومن الفناء الخلفي للمدرسة رميت المفتاح والعكازين، ثم عدت إلى باب الخروج مغادرة إلى البيت.
توجهتُ مباشرة إلى غرفتي، رفضت تناول الغداء، ودخلت تحت غطاء السرير أبكي بشهقات عالية.... الطريق طويل والظلام المتكاثف يحيط بنا كأننا في بحر من سواد يتماس مع أفق داكن، برد شديد ابتدأ بتساقط المطر، مسافة أكثر من ألف كيلو متر ترافقها الجبال العالية القاتمة، كنت ككل الأطفال الذين يهربون من الواقع إلى الخيال، ولكل طفل خيالاته التي ترسم له ما اختزنه عقله الباطن من مناظر رعب. نافذة السيارة ترميني بوخزات الصقوعة، وبمنظر امرأة تطل من تجاويف الجبال الحالكة، لها شعر طويل، تلبس جلباباً أبيض، تسيل من فمها الدماءُ، تُغرق يديها وتَصبغ ملابسَها بالحمرة، صاحبني هذا المشهد البشع المؤطر بالنافذة ولاحقني بصحبة صوت الرعد طوال انكماشي في كرسي السيارة، وزاد رعبَه لمعانُ البرق إذ يُظهر امرأةَ الجبال الملطخة بالدماء وهي وتمزق بأسنانها أجساد أطفالٍ تأكلهم.
حادث سير على جانب الطريق سيارة مدمرة، في حالة صعبة جداً، سافلها عاليها، نزل أبي بعد أن توقّف مصطبحاً معه أخي وكشافًا للإنارة، استدارا في سائر الاتجاهات بحثاً عن أحياء، فلم يكشفا إلا عن أجساد متناثرة مفارقة الحياة. العتمة وصور آكلين لحوم البشر والغول وكل مناظر أفلام الرعب تشكلت في دجى الظلمات أمامي، نزلتُ أستعجلهما وأترّجاهما أن يعودا خوفاً من وحوش الفلاة، تخبطت في صبغة السواد الماحية ما عداها، كشحةُ برق مكّنت عيني أن تلتقيا بعينين تحت كتلة الحديد المهروسة، فيهما توسلٌ ورجاء، امرأة الجبال الملطخة بدماء أجسادِ الأطفال الممزقةِ بأسنانها مسيطرة على عالمي الطفولي. بدأتْ تئن أناتٍ لا يسمعها إلا القريب منها جداً، وتخبرني بعينيها أن أطلب لها النجدة والمساعدة، أنا الوحيدة القريبة منها، وأنا وحدي أسمعها وأنظر إليها؛ لكني أخفيت أمرها لم أخبر أبي وأخي كتمت الاستغاثة، صرختُ بهما أن يستعجلا العودة، لم أشر إليها ولا إلى الخرم الصغير من الحديد المتآكل الذي يُظهر نصفها العلوي، حتى إضاءة سيارتنا الخافتة لعبت معي لعبة الكتمان؛ فجاءت في اتجاه مستقيم لا ينكسر إلى تلك الجهة التي ترقد فيها المرأة، ظل وجهها ونظراتها يشعان مع كل لائحة برق تشق السماء. صحت بأبي وأخي؛ فعادا، وركبنا السيارة بعدما تأكدا أن لا أحد على قيد الحياة، وبقتْ تلك الفتحةُ الضيقة التي تُظهر المرأة في هذا الظلام الدامس سرّاً لم يُكشف لأحد.