كثيرًا ما تنتابنا مشاعر متباينة فيما بيننا، ومتناقضة أحيانًا حيال ذلك السباق المحموم بين الجامعات والمؤسسات التعليمية للوصول إلى أحد المراكز الأولى التي يحصدها الأفضل على مستوى العالم. فمنا مَنْ يبدي في ذلك إعجابه أو احترامه أو تمنيه، ومنا مَنْ يبدي قلقه وحسرته! نفعل هذا ولم نسأل أنفسنا: كيف وصلت هذه المؤسسات إلى تلك المكانة؟ وكيف حصلت على ذلك المستوى؟ و»إذا عرف السبب بطل العجب!».. والأسباب لديهم كثيرة جدًّا بدرجة تفتِك بأي تعجب ينمو داخلنا. وهي لكثرتها تُشعرنا أحيانًا بالإحباط بديلا للعجب.
والأمر المثير للاستغراب أننا كأمة عربية نمتلك من المقومات المادية والمعنوية ما يجعلنا نضارع تلك الجامعات: لدينا العقول المفكرة والشباب المكافح الطموح والموارد البشرية والمادية المتاحة، التي يمكن أن تُفيدنا أيما إفادة في رعاية العلم والعلماء. لدينا كل هذا ولكن ما نفتقر إليه هو المنظومة. ما نحتاج إليه هو تحريك المياه الراكدة، وإعادة النظر في كثير من خطواتنا، وتجديد الاستراتيجيات.
وأنا أرى أن ما تقوم به إدارة المؤتمر الدولي الذي يعقده قسم اللغة العربية بكلية الآداب في جامعة الملك سعود «قضايا المنهج في الدراسات اللغوية والأدبية: النظرية والتطبيق» أمر يستحق الثناء والاحترام. ونحن هنا لا نتكلم عن قصة مؤتمر؛ فالمؤتمرات تنعقد في بلداننا العربية كل يوم، وكما تبدأ تنتهي: لا جديد، لا تغيير، مجموعة توصيات تلقى دون أن تجد لها صدى أو مردودًا على الواقع الثقافي والعلمي.
إنَّ مؤتمرنا الذي نتحدث عنه يختلف في أمرين، أو لنَقُل - بقدر من التفاؤل - يتميز في أمرين:
أولهما، وهذا ما لمسناه بالفعل، ذلك الجهد المنظم والوافر الذي تبذله إدارة المؤتمر، وعلى رأسها الأستاذة الدكتورة نورة الشملان منذ ما يزيد على ستة أشهر. فهي وفريق العمل الممتاز الذي يعمل مثل خلية النحل، كلّ يعرف دوره ويؤديه، في سيمترية جماعية جميلة، تؤكد أن إمكانات العمل الجماعي بذورها داخلنا، حتى لو ظن كل واحد منا أنه جزيرة منعزلة.
وهذا الجهد الوافر يدل على أن إدارة المؤتمر - ومن ورائها الكلية والجامعة والدولة - تطمح منذ أن قررت عقده إلى أن يكون مؤتمرًا ناجحًا؛ فسعت جاهدة إلى تَمَثُّل كل الخطوات الناجحة بما تمتلكه من عزيمة وخبرة تدل على ممارسات سابقة ومتابعة جيدة للمؤتمرات النظيرة، تكشف فيها عن نقاط القوة والضعف.
ثانيهما، اختيار عنوان المؤتمر (قضايا المنهج في الدراسات اللغوية والأدبية: النظرية والتطبيق).. وفي الحقيقة وجدتني للوهلة الأولى متعجبًا من هذا العنوان الضخم الذي تتاخم حدوده دروبًا من اللانهائية في مجالات الثقافة المختلفة، وليس اللغة والأدب فحسب. وهي دروب متشعبة تضرب بجذورها في أعماق الثقافة العربية والثقافات الغربية على تعددها.
وقد ثارت تساؤلات داخلي: كيف سيتمكن هذا المؤتمر من رصد كل المناهج مع اختلاف المجالات، مع العلم أن الكم هنا قد يتضاعف؛ إذ إن مفردات المنهج الواحد أحيانًا ما تؤول بطرق مختلفة باختلاف الأمصار، والأفراد أحيانًا؛ ما يكسب هذا المنهج شخصية مستقلة عند دخوله قطرًا من أقطارنا العربية؟ وكيف له أن يفك ذلك الاشتباك بين اللغة والأدب، الذي وجدنا معه امتدادات لغوية داخل تخوم المباحث الأدبية والعكس؟ هل يمكن لهذا المؤتمر أن يفك تلك الخطوط المتشابكة بين مناهج تحليل الخطاب وعلم النص والبلاغة والأسلوبية؟ وأن يحدد مناطق التداخل المقبول بينها؟
ولكن ما أثار إعجابي وأزال تعجبي هو رصد محاور المؤتمر بصورة تجيب عن كل التساؤلات السابقة: فهو من تحديد لمفهوم المنهج وماهيته ينتقل إلى تحديد للمناهج الموجودة على الساحة اللغوية والأدبية وكيفية تطبيقها على نصوصنا العربية، يبدأ باللغوي منها ثم يعرض الأدبي، ثم يطرق تلك المنطقة التي يتداخل فيها الأدب مع اللغة، وهي منطقة علم النص وتحليل الخطاب والبلاغة الجديدة، ثم ينهي فعالياته بمناهج ما بعد الحداثة حيث النقد النسوي والسيميائية والسرد. والمؤتمر بهذا التنظيم يتيح الفرصة للمتابع أن يرصد وبشكل منظم وكامل إجاباتٍ لكل ما قد يثار داخله من تساؤلات، بل ويعطيه الفرصة الكاملة لأن يعقد المقارنات بين الرؤى المختلفة، بما يسهم في التوصل إلى رؤى أكثر موضوعية حول تحديد المناهج.
لا شك أن هذه التساؤلات سيسعى ذلك المؤتمر - أو لنقل تلك الاحتفالية الكبرى - إلى وضع الحلول القوية والناجحة لها. ولا شك أن تلك الكوكبة المنتقاة من علماء أجلاء وباحثين مجتهدين، ستسهم بمناقشاتها الجادة في وضع ثوابت عامة لكثير من المشكلات والقضايا التي سيثيرها المؤتمر. وكان لذلك النجاح المتوقع بشائره التي ظهرت في تلك الجدية التي تم بها اختيار الأبحاث، الذي خضع لمنطق الكيف وليس لمنطق الكم، والتحكيم القوي الذي أفاد المؤتمر بقدر إفادته للباحثين المشاركين فيه.
وأود أن أنهي مقالي بما بدأت به «إذا عُرف السبب بطل العجب!».. فهذا المجهود وهذا الإخلاص في العمل والجدية في تناول أمورنا وسَمْت حياتنا، خطوة في طريق طويل للعالمية.