منذ أن قال الفرزدق: «لنا أن نقول وعليكم أن تؤولوا» أدرك أن دور الناقد لم يكن دوراً هامشياً، وإنما عليه أن يعاين ما يقرأ وفق معطيات تشي بالدلالات المفتوحة، وعندما قال: أبو تمام رداً على سؤال أحدهم: لماذا لا تقول ما يفهم، أجاب أبو تمام: «لماذا لا تفهم ما يقال». فإنه أدرك أن عملية الإبداع قائمة على التشارك وليس على الاستهلاك. وحينما قال أبو حيان التوحيدي: «إن الكلام على الكلام صعب» فإنه أدرك بوعيه الثاقب أن اكتشاف المعنى وإصابة الغاية من الصعوبة بمكان.
هذه إضاءة وفاتحة للحديث عن سؤال المنهج في الدراسات الأدبية والنقدية واللغوية، إن المنهج قضية أساسية وجوهرية في التعامل مع الظاهرة الأدبية، ولكن لا بد من الإشارة في هذا المقام إلى المنهج واللامنهج في الدراسات الأدبية، فالموقف من المنهج له ثلاثة أشكال: الأول: رفض ما هو جديد والتقوقع حول الذات والعجز عن تقديم رؤية قرائية تتخطى الأسلوب المباشر، والثاني: يتمثل بالمتحمسين الذين يطبقون المناهج الحديثة دون وعي خالص بخصوصية اللغة والثقافة والإطار والمرجع، والأخير يتجسد بالدراسات التي أفادت من المناهج الحديثة، وسعت إلى تشكيل رؤية نقدية بصورة تجمع في بعض الأحيان بين التراث والآليات التي تقدمها المناهج الحديثة.
لقد ظهرت في مسيرة الدراسات الأدبية والنقدية عند العرب مناهج متعددة، عرف بها أصحابها، وأسهموا في معاينة كثير من الظواهر الأدبية وفق أفق المنهج ورؤيته، ولا شك في أن بعض هذه المناهج قد أثرت النص الأدبي، وجعلته نصاً حيوياً قابلاً لقراءات متعددة، ولكن ذلك لا يعني أن الأمور كانت عادية، إذ واجهت بعض المناهج نقداً لاذعاً، ونودي بهدمها ووسمها بأوصاف غير واقعية، مثال ذلك: النقد النفسي والأسطوري والبنيوي والسيميائي والثقافي، وإذا كان نقد النقد شيئاً مشروعاً فإن ما هو غير مشروع هدم ما بناه الآخرون والعجز عن تقديم البديل في كثير من الأحيان.
حاول أصحاب النقد الممنهج أن يدرسوا الظاهرة الأدبية وفق منهج بعينه، ونجحوا في تقديم قراءات عميقة، وأثبتوا بشكل واضح أن النص العربي قابل للقراءة وفق مناهج حديثة، مثال ذلك تعددت القراءات التي تناولت نصاً بعينه مثل: معلقة امرئ القيس، ومعلقة لبيد بن ربيعة من العصر القديم، وأنشودة المطر للسياب، ورواية موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح من العصر الحديث. لكن هل يمكن أن نلغي هذه المناهج لأنها وصلت إلى نتائج متباينة في بعض الأحيان؟ إن تعدد القراءات وفق مناهج متعددة ظاهرة صحية وسليمة أثبتتها الدراسات التي تناولت الظاهرة الأدبية قديمها وحديثها. ولكن هذا لا يعني أن تطبيق بعض المناهج قاد إلى الإفراط في التأويل.
وحتى يتم تخطي المنهج الواحد في التعامل مع الظاهرة الأدبية، ظهرت بعض الدراسات التي تدعو إلى اعتماد ما يعرف بالمنهج التكاملي، وهو منهج دعي إليه ليكون في مواجهة المنهج الواحد وخاصة بعد أن تسيد المنهج البنيوي الموقف، ولكن الحقيقة أن الدعوة إلى تبني هذا المنهج لم تلق تجاوباً، إذ إنها دعوة أولئك الذين لا ينطلقون في نقدهم من منهج نقدي. ولم تبق أسئلة المنهج ورهاناته بعيدة عن الجو الجامعي، إذ يختلف النقاد من الأكاديميين إزاء تبني المنهج في مقاربة الظاهرة الأدبية، فمنهم من يتبنى منهجاً معيناً، ومنهم من لا يؤمن بتبني منهج واحد أو أنه يفضل الابتعاد عن المنهج بشكل كلي.
ومن هنا فإن انعقاد الندوة العالمية في رحاب جامعة الملك سعود يغدو من الأهمية بمكان، فالأمل معقود على التوصيات التي ستصل إليها أعمال هذه الندوة ومداخلاتها، لأن الوقت حان لوضع المنهج وأسئلته ورهاناته على المحك، وخاصة أن المشتغل على الظاهرة الأدبية لا يصادف إشكالية في المنهج وحسب، لكنه يصادف فوضى المصطلح وتشتته، فتعيين المصطلحات وضبطها وتحديدها آلية متصلة اتصالاً وثيقاً بالمنهج وقضايا تطبيقه في مقاربة النص الأدبي.
إن هذه الندوة تطرح جدلية المنهج بين الحضور والغياب، وتقيم مراجعة شاملة للمناهج في الحقول الأدبية والنقدية واللغوية، وخاصة بعد رحلة طويلة برزت فيها المناهج الكثيرة من التاريخي والاجتماعي حتى وصل بنا المطاف إلى النقد الثقافي, إن هذه الندوة تمثل حراكاً فاعلاً يسهم في طرح قضية إشكالية تمس وعي الإنسان العربي في لغته وأدبه ونقده.
في الختام أتوجه بالشكر الجزيل لمقررة الندوة الأستاذة الدكتورة نورة الشملان وللأخوات والإخوة الذين بذلوا جهوداً مشكورة.