تمثل الندوة الدولية لقضايا المنهج التي ينظمها قسم اللغة العربية في جامعة الملك سعود واحدة من أهم الندوات العلمية في بلادنا، وليس ذلك للاهتمام الكبير الذي بذل فيها من قبل اللجنة المنظمة والجامعة المضيفة وحسب، وليس لأهمية المحاور والأسماء الكبيرة المشاركة فيها فحسب، وإنما لأهمية إقامة ندوة عن المناهج والوعي بأهمية النقاش والجدل حولها، ذلك النقاش الذي لا يقل قيمة عن المنهج نفسه، لأنه جزء من تكوينه، وأداة من تطويره. ومن هنا تأتي هذه الندوة دالة على أهمية النقاش حول قيمة المنهج، وعن الإشكاليات التي تحيط به بوجه عام ويحسها الذين يتعاطونه أو يحتاجونه، ليس بوصفها معلومات تعرض على السامعين وتقدم للباحثين يطبقونها في دراساتهم أو ويحاكونها، وإنما بوصفه أداة لضبط العلوم الإنسانية بضوابط العلم، وحدوده. هذه الضوابط التي تمثل بالنسبة للعلوم الإنسانية على وجه التحديد مشكلة ليست يسيرة، خاصة بما تشيعه من تقابل بين طرفي المنظومة «العلوم الإنسانية»، فالعلم الذي يتصف بالثبات والحياد، والموضوعية والقدرة على الاطراد، يقابل بالإنسان الذي من طبيعته التقلب والنقص واختلاف المزاج، وهو ما يجعل العلوم الإنسانية تشعر بالنقص تجاه العلوم الطبيعية التجريبية التي يمكن أن تتصف بالموضوعية والحيادية والتي يمكن أن تثبت فيها صحة الطريقة عن طريق النتيجة، في حين تأتي في العلوم الإنسانية النتيجة جزءاً من الطريقة وهو ما يجعل الحكم على الطريقة من خلال النتيجة أمراً ملبساً.
هذا الوعي بالحاجة إلى المنهج الخارجي لتحقيق الضبط العلمي ليس أمراً جديداً في ثقافتنا العربية، وإنما هو قضية كانت مطروحة منذ وقت مبكر في التفكير العربي، لعل أشهر محاولة تدل على الوعي بإشكالية المنهج لتحديد العلوم الإنسانية كتاب الإمام أبي حامد الغزالي -رحمه الله- المسمى ب»معيار العلم»، فالإمام -رحمه الله- يشعر بأن العلم ويقصد به العلوم الإنسانية والنظرية لا بد لها من معيار، بينه في العنوان الفرعي الذي جاء بعد ذلك «وهو كتاب في المنطق»، فالمنطق من وجهة نظر الإمام هو معيار العلم، بمعنى هو الذي يختبر فيه العلم للكشف عن صحته أو خطئه، بالرغم من أن المنطق لم يكن كذلك، بمعنى أن العلوم الإنسانية ليس شرطاً أن تلتزم بحدود علم المنطق حتى تصبح صحيحة، فالتجارب أثبتت أنه من الممكن أن تكون الظاهرة العلمية صحيحة من حيث أبحاث علم المنطق وخاطئة في الحقيقة أو العكس، ومن هنا لم يعد المنطق هو الحد المعياري الوحيد لكل قضية علمية، وهو ما جعل لكل علم منطقه، فاختلفت الرؤية وانكشف قصور علم المنطق في أن يكون معياراً للعلم، لتأتي أبحاث كانت في كتاب نقد السبب الخالص والسبب العملي، وهيجل في المنهج الجدلي، تقدم آراء أخرى ونظريات لسد القصور في العلوم الإنسانية والبحث عن المنهج الذي يحد فيه العلم، وفي القرن العشرين انفتح البحوث في العلوم الإنسانية لتقطع شوطاً كبيراً في التطور.
ولم تكن العلوم اللغوية والأدبية بمعزل عن هذا التطور الذي تشهده الرؤية نحو مفهوم العلم والمنهج على الصعيد النظري الفلسفي بل كانت تسعى لمحاولة البحث عن مناهج من داخلها لتطبق المنهج الكلي على حد تعبير الجابري، وهي في بحثها ذلك تواجه تحديات في تطبيق الرؤية العلمية كما تفرضها الرؤية الفلسفية العقلية وتسعى للتغلب عليها، وأحياناً تخرج عنها لتعود إلى أحضان الفلسفة من جديد وتتجاوز الرؤية اللغوية الضيقة المحدودة، أو لتلتحم بها فتربط بين اللغة والفلسفة. والدراسات اللغوية والأدبية العربية منذ البدء سعت لأن تتقيد بالرؤية العلمية وتبحث لها عن سند في الفلسفة تارة وفي غيرها من العلوم أخرى، وتتبع مدارس النقد القديم ونشأته تكشف لنا تلك المكونات التي أسهمت في بناء النظرية النقدية العربية القديمة، كما تكشف الحدود التي وقت عنده الدراسات العربية القديمة وأسباب الوقوف عند تلك الحدود.
في هذا المقام يطيب لي أن أحيي الندوة الدولية للمناهج، وأحيي القسم العلمي الذي نهض بمسئولية العمل والإعداد والترتيب الذي لمسته منذ اتصالي بالمشرفة على الندوة الأستاذة الدكتورة نورة الشملان عن طريق البريد الإليكتروني حيث أرسلت ملخص ورقتي العلمية، ثم المتابعة الدقيقة والاستجابة السريعة لكل ما تتطلبه مقتضيات المشاركة في الندوة والتزاماتها، مما يبعث على السعادة ويعطي انطباعاً رائعاً عن التنظيم الدقيق، والمتابعة المستمرة، والعناية بكل دقائق العمل وتفصيلاته، ولا أظن الأستاذة الدكتورة ستكون قادرة على فعل هذا وتحقيق النجاح الكبير لو لم يكن لديها فريق عمل متوائم يؤمن بالعمل بروح الفريق، ويسعى لأن يقدم لبنة في تطوير الحركة العلمية في هذا الوطن الغالي، فلهم مني جميعاً كل الشكر والتقدير.