يمكن القول - بصورة عامة - إن هناك نظريتين لتفسير ظاهرة الاستعارة، هما:
أ- النظرية التقليدية traditional theory
ب- النظرية المعاصرة contemporary theory
وتنطلق النظرية الأولى من تلك الثنائية الشهيرة التي تقابل بين (الحقيقة) و(المجاز)؛ ومن ثَمَّ فهي تعتمد - حسبما يرى جورج ليكوف G. Lakoff - على المرتكزات الآتية:
1- كل اللغة اليومية المتداولة حرفية، وليست استعارية.
2- كل موضوع يمكن فهمه حرفيا بدون استعارة.
3- اللغة الحرفية فقط هي التي يمكن أن يحكم عليها بأنها صادقة أو زائفة.
4- كل التعريفات المعطاة في معجم اللغة حرفية، وليست استعارية.
5- المفاهيم المستخدمة في قواعد اللغة كلها حرفية، وليست استعارية.
وتقوم النظرية الثانية على تفنيد هذه المرتكزات الخمسة منطلقة من المعطيات الجديدة التي توصلت إليها العلوم الإدراكية cognitive sciences لتنقل ظاهرة التعبير الاستعاري من منطقة درس (الأداء) performance إلى منطقة درس (الكفاءة) competence؛ أي من النظر إليه على أنه ظاهرة لغوية تتجسد في كونه محض اختيار أسلوبي، إلى النظر إليه على أنه ظاهرة إدراكية مرتبطة بطرق عمل الذهن البشري في إنشاء أنساقه التصورية conceptual systems وتشفير بناه ونماذجه المعرفية.
وفي هذا السياق يحاول البحث أن يقدم الإطار الإبستمولوجي الذي أحاط بتلك المقاربة الإدراكية مفصلاً القول حول تنويعاتها النظرية الداخلية في معالجة الكفاءة الاستعارية؛ ومن ثَمَّ فهو يلتفت إلى أن هذه المقاربة تدخل ضمن ردة الفعل التي شهدتها إبستمولوجيا العلم ضد مقاربات الفلسفة الوضعية لدلاليات اللغة الطبيعية؛ حيث إن هذه الفلسفة افترضت وجود واقع موضوعي متاح بشكل واضح؛ ومن ثَمَّ انطلقت من تصور مؤداه أن التمثيل الأمين للأشياء القائمة في هذا الواقع هو حجر الأساس للمعنى. وبتصدي كثير من الاتجاهات المعرفية لهذه المقولة تبيَّن أن الواقع يبدو بالغ الطرافة والغنى لدرجة أننا لا نستطيع تمثيله بصورة تامة وتفصيلية بوسائل بسيطة؛ ولذلك فإن أنساقنا الذهنية تضفي حدودا على موضوعات العالم، في حين أن هذه الموضوعات نفسها ليس لها هذه الحدود. وعلى هذا فإن تشكيلنا المفهومي للواقع إنما هو إنشاء ذهني a construct قائم على أربعة أنواع من المزاعم أو الاستراتيجيات التخطيطية عن العالم، هي كما يصوغها سيدني لامب:
1- وجود الحدود.
2- وجود ثبات في الأشياء.
3- وجود تمييز أساسي بين الأشياء والعمليات والعلاقات.
4- وجود تصنيفات للأشياء وللعمليات وللعلاقات.
ولأن هذه الاستراتيجيات الذهنية مفروضة على الواقع فإنها تفضي إلى أن عمليات المعنى الأساسية إنما هي عمليات مجازية أكثر من كونها عمليات تمثيلية؛ ومن ثَمَّ بدت الاستعارة أحد المفاتيح القليلة المهمة في تفنيد النظريات الوضعية، من جهة، وفي بناء الإبستمولوجيا الإدراكية من جهة أخرى.
* عن طريق تصويره بمفهوم *النار*: (اشتعال/ انطفاء الحب)، وبناء مفهوم *الكمية* عن طريق تصويره بمفهوم *الحركة*: (ارتفعت/ هبطت الأسعار)...إلخ.
ولقد أُطلِق على المجال الأول تسمية (المجال/ الهدف the target)، وعلى المجال الثاني تسمية (المجال/ المصدر the source). وقد يظن أن هذه مجرد مسألة اصطلاحية، ولكنها في الحقيقة مسألة تتعلق بدراسة طبيعة التفكير الإنساني، وطبيعة عمل الذهن البشري في تشييد معرفته بالعالم وبعلاقاته بهذا العالم.
إنَّ الانطلاق من فكرة (المخطط الاستعاري) أوصل أحد الباحثين (مارفن مينسكي) إلى القول بأنه «ليس ثمة شيئان أو حالتان ذهنيتان متماثلتان دائما؛ لذا فإن كل عملية سيكولوجية يجب أن تستعمل وسيلة أو أخرى لتستحث في الذهن وهْمَ التماثل؛ ومن ثَمَّ فإن كل فكرة هي - إلى درجة ما - استعارة». ولقد كان الأخذ بهذا المبدأ بمنزلة الحل الإبستمولوجي الذي أخرج المقاربة الإدراكية للاستعارة من مأزق الصدام مع أثر الاختلافات الثقافية في تنوع طرق التعبير الاستعاري وتغايرها من ثقافة إلى أخرى. وهنا يقف البحث وقفة مطولة مع نظرية اللساني الإدراكي سيدني لامب S. Lamb التي عرضها في بحثه Neuro-Cognitive Structure in the Interplay of Language and Thought، والتي استثمر فيها فكرة (وهم التماثل) التي أشار إليها مينسكي في المقتبس الذي سقناه منذ قليل. وفي هذا البحث يتحدث لامب باستفاضة عما أسماه (الأوهام الدلالية semantic mirages) وعما أسماه مغالطة (وحدة معجمية واحدة لكل شيء واحد one-lexeme-one-thing fallacy)، ومن ثم يقدم لامب دعماً قوياً لفرضية النسبية اللغوية، ومن ثم النسبية الثقافية، التي أرساها في الفكر اللساني الحديث بنيامين وورف. ولا شك أن هذا الدعم ألقى بتأثيرات مهمة على النظرية الإدراكية في الاستعارة، وبخاصة فيما يتعلق بأثر النسبية الثقافية في تشكيل المخططات الاستعارية. وفي هذا السياق يحاول البحث أن يقارن بين بعض أنساق الاستعارات في الثقافة العربية وما يقابلها من أنساق استعارية مما توصلت إليه المقاربة الإدراكية.
أستاذ كرسي بحث المانع لدراسات اللغة العربية وآدابها