Culture Magazine Thursday  18/06/2009 G Issue 288
فضاءات
الخميس 25 ,جمادى الآخر 1430   العدد  288
مفتاح ثقافة العراق
قاسم حول

 

انقطعت عن الكتابة لثقافية الجزيرة العزيزة قرابة ثلاثة أشهر بسبب انشغالي في تصوير فيلمي الروائي (المغني) في مدينتي البصرة التي فارقتها لأكثر من ثلاثين عاما.

عدت إليها ولأول مرة أشاهدها وكأنني ولدت وكبرت من جديد. لم أكن أراها من قبل كما رأيتها الآن واكتشفت أن الإنسان لا يرى بعينيه، إنما يرى بحريته.

لأول مرة أشعر بأنني قادر على رد كلام رئيس الوزراء عندما لا يعجبني كلامه، وأنه لن يعدمني لا شنقا ولا رميا بالرصاص في وقت كان يخاف فيه الزوج من محادثة زوجته سوى بالغمز أن تترك الصالة وتذهب نحو الشرفة لكي يبدي لها رأيا اقتصاديا أو ثقافيا خوفا من الأبناء لأنهم مكلفون بالكتابة عما يجري داخل الأسرة، والخوف أن يبدي لها رأيا سياسيا أن تكون هي نفسها أو أن يكون هو نفسه مكلفين كلاهما بالكتابة عن بعضهما إلى جهات معينة يصادر بعدها المتحدث إلى جهة مجهولة.

لقد سقط النظام المرعب ودخلت الساحة قوى جديدة لا تريد للثقافة وجودا فصار قتل المثقف الذي كان يجري وسط أقبية تسميها لجان حقوق الإنسان (بيوت الأشباح)، صار الموت يجري في الهواء الطلق.

دائما ثمة رجال لمرحلة صعبة تمر بها الشعوب.

هكذا تمكن العراق من تجاوز موت المثقفين في الهواء الطلق بعد أن تمكّن من تجاوز موتهم في بيوت الأشباح.

تمكّنت من دخول مدينتي (البصرة)، لم أدخلها فحسب بل دخلت ما كان يطلق عليه (القصور الرئاسية)، وجلبت أحدث كاميرات التصوير السينمائية وأحدث معدات الصوت مع فريق تصوير وصوت من فرنسا واخترت الممثلين (الممثل المناسب للشخصية المناسبة)، وبدأت التصوير، وسرعان ما تحولت منطقة القصور الرئاسية (قصور الدكتاتور) إلى مدينة للسينما وإلى منتدى ثقافي للفنون المرئية وللآداب الروائية والقصصية. كان أصدقائي من الأدباء والفنانين يزورون منطقة التصوير ونشطت حركة ثقافية داخل قصور الرئاسة، وجاء كُتّاب جدد بقصائدهم وقصصهم ورواياتهم وكانوا يفرحون أن يجدوا نشاطا ثقافيا بدأ يتحرك في المدينة التاريخية التي أريد لها أن تذبح وأن يذبح على أديمها مثقفوها وكُتّابها والمبدعون.

كاميرات تدور ومعدات صوت تتحرك وممثلون يؤدون شخصيات عبر عدسات سوف تنقلهم للعالم على الشاشات السينمائية الواسعة.

كان نشاطنا يتسم بالتحدي.. والسؤال نتحدى من؟

هل نتحدى أهلنا.. أبداً.. فهم عشاق للثقافة والفن والإبداع؟

صرنا نتداول المطبوعات.. الشباب والأدباء أصدقاء المكتبات ومؤسسات بيع الكتب. الكتب تزدهر في المحلات وفي أرصفة الشوارع. مؤلفات دينية إلى جانب المؤلفات المسرحية وكتب السينما وكل يغرف لمشتهاه.

قدم لي الكاتب علي العضب أوبريت عن ثورة الزنج لم ينتج بعد، وهو مكتوب على الحاسوب ومطبوع ومجلد وجاهز للتنفيذ على المسرح. ولكن لم تعد ثمة خشبة للمسرح ولا صالة للسينما.

مررت على كل صالات السينما في مدينة البصرة العريقة بصالات عروض الأفلام وتقاليد المشاهدة النظامية ومستوى وعي التلقي البصري.. كل صالات السينما مهدمة. دمرتها الحرب ودمرتها رغبة التدمير وإشارات الأجندات الخارجية.

بالتأكيد ثمة من لا يريد للعراق أن يبقى وأن يعاد بناؤه على أسس عادلة وإنسانية والهدف الأساس هو تدمير الثقافة العراقية (عندما تسقط السياسة يسقط النظام وعندما تسقط الثقافة يسقط الوطن)، ومطلوب أن يسقط الوطن العراقي لكن المثقفين العراقيين مصرون ألا تسقط الثقافة وهم متشبثون بها. دخلت بيوتهم.. زرتهم وشاهدت مكتباتهم الشخصية. الديوان والديوانية هي رفوف مكتبة ورفوف وثائق عن ثقافة البصرة وثقافة العراق. مخطوطات لمشاريع روايات وقصص وسيناريوهات أفلام وأوبريت على المسرح، ولكن في غياب خشبة للمسرح وفي غياب صالة سينما. وفي غياب صالات للمنتديات الثقافية تليق بها وبجوهرها ونبلها.

ترى لمن يكتبون رواياتهم؟ لأية دار نشر؟ ولأية جهة داعمة؟ ولأية وزارة؟

المشرفون على الثقافة وعلى الإعلام لا يريدون آلية للعمل.. لا يريدون قوانين للثقافة ولا قوانين للإعلام؛ لأن في قوننة الحياة الثقافية والإعلامية يكمن اختفاء الجهل واختفاء الفساد الإداري والمالي!

حال المثقف العراقي اليوم ومن خلال مشاهداتي للبصرة وثقافتها وجدته حالة يسهل تفسيرها ويصعب معرفة غدها الآتي.. المثقف العراقي يعمل بتلقائية العمل وآلية الحياة ولكنه عاجز عن التخطيط؛ فالكاتب والفنان صنفان: صنف ينتج برغبة الحياة والإبداع، وصنف ينتج ويعرف كيف يبرمج إبداعه وكيف يضع الأسس التي تبنى فوقها الإنجازات الآتية.

العراق اليوم يحتاج إلى الصنفين، المبدع المبدع، والمبدع الواعي لمسار الإبداع.

والعراق اليوم ثقافيا وإنسانيا يحتاج إلى حنان أصحابه في كل المساحة التي يطلق عليها سابقا الوطن العربي ويطلق عليها اليوم الشرق الأوسط ويطلق عليها لاحقا.. لا أدري..

لكن المهم هو الثقافة وبناء الصرح الثقافي، وهذا شأن ليس سهلاً، قد يبدأ بمؤتمر تتبناه دولة محبة للعراق (حقاً)، وقد تتبناه قناة فضائية محبة للعراق (حقاً)، وقد تتبناه صحيفة أو ملحق ثقافي لصحيفة محبة للعراق (حقاً).

مع أني كنت مشغولاً بشكل حقيقي في تنفيذ مشاهد صعبة في فيلم سينمائي روائي مع فريق تصوير وصوت من فرنسا بظروف صعبة وعسيرة، حاولت أن أجد طوال سنوات من يقف معي لتحقيق الفيلم فأخفقت حيث لم يستجب لي أحد.. ولا أحد.. لا دولة.. لا مؤسسة إنتاج.. لا شيخ.. لا أمير.. لا محب للثقافة.. وكدت أصاب باليأس.. لكنني قررت المغامرة والسفر باتجاه مواقع التصوير في وطني فوجدت قلوبا طيبة وحنونة.. كنت أصور في أزقة أبي الخصيب حيث روح بدر شاكر السياب تطوف هناك فشاهدت الناس ذات الناس. كان الناس يدخلون بيوتهم ويقدمون لنا وللفرنسيين صواني الشاي والماء البارد ويباركون خطوتنا الثقافية. إذن كل ما كان يقال حول تخلف الناس وتراجعهم عن الثقافة ليس سوى محض افتراء. المهم الناس تعاطفوا مع الفيلم وكانوا يصفقون في نهاية كل لقطة، فأنجزت تصوير الفيلم وبانتهاء التصوير أعتبر أن الفيلم قد أصبح على الشاشة.

كنت بحاجة إلى زورق وامرأتين في أحد مشاهد الفيلم، أن يمرا أمام قصر الدكتاتور فيطلق عليهما النار وتغرقان. قيل لي إن من يصنع الزوارق ومن يوفر النسوة اللاتي يجدفن في الزورق موجودون في منطقة ينتشر فيها الخاطفون والإرهابيون. صعدت سيارة الإنتاج وأخذت معي مرافقا وذهبت نحوهم عسى أن يخطفوني. جلست معهم وحاورتهم فشاهدت غابات النخيل التي قطع أعناقها الدكتاتور.. ثلاثون مليون نخلة مقطوعة الرؤوس فما يضيرني أن يقطع رأسي بعد؟

عدت إلى منطقة التصوير دون أن يخطفني أحد.

هكذا تنتج الثقافة في البصرة في العراق.. قالوا لي كل شيء مسكون بالترقب وبالصدفة، لكن ثمة ناسا مصرين أن يبقى العراق مرفوع الرأس وليس مقطوع الرأس، وأن تبقى الثقافة مدهشة مهما قست الظروف.

اليوم أشعر بأن ثقافية الجزيرة مطالبة بأن تدعو إلى مؤتمر للمثقفين العراقيين وتعزز مستواهم وتبارك إبداعهم في ظروف صعبة ولا إنسانية وتبارك صمودهم من أجل ثقافة جديرة بتاريخ العراق وحضارته. وأن تصدر عنهم عددا خاصا يناقشون فيه مفتاح الثقافة نحو بيتها الحنون.

فهل تبادر ثقافية الجزيرة إلى عدد خاص بالثقافة العراقية وفق منهج يرتقي بالمستوى الثقافي إلى مداه الجميل؟!

فالموضوع لا يقبل التأجيل!

* * *

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7591» ثم أرسلها إلى الكود 82244

هولندا

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة