Culture Magazine Thursday  12/03/2009 G Issue 274
فضاءات
الخميس 15 ,ربيع الاول 1430   العدد  274
لطفية صغيرة وأوجاع كبيرة
لمياء باعشن

 

عرفنا عن جدتي (لطفية صغيرة) أنها كثيرة ( التعصيب)، فقد كانت جدتي تعاني من نوبات عصبية ترمي بها على الأرض مشدودة الأعضاء، مغمضة العينين، مرتجفة، تئن وهي محبوسة الأنفاس، باهتة اللون، وغائبة عن الوعي. كنا نلتف حولها صغاراً ونبحلق في حالتها العجيبة وقلوبنا واجفة، بينما يهرع إليها الكبار يحوقلون ويعذبلون ويبخّونها بماء زمزم ويبخّرونها باللبان الشحري والمستكة وهم يتلون آيات من القرآن الكريم. عندما تعود جدتي من رحلة التشنج المضنية، تسترد أنفاسها شيئاً فشيئاً، ثم تروي عطشها بقطرات من الماء ورد، وتستدير لتعطينا ظهرها، تواجه الحائط لساعات.

ربما كنت أكثر الأطفال رعباً من ذلك المنظر المخيف، تبقى معي آثاره أياماً وليالي أخشى فيها التحرك من مكان لآخر دون رفقة آمنة، وأتجمّد تحت غطائي في الليل فيجافيني النوم من شدة البرودة. أتحاشى الجلوس بقربها وأرتعش إن كلمتني وأهرب منها إن حاولت أن تداعبني أو تحضنني. يحاول الكبار تهدئتي ويفسرون لي ما أرى: (جدتك ضعيفة من الداخل، هشُة، تعيش على حافة الحزن والغضب والأسى، ويكفي أن تتأثر من كلمة، ولو غير مقصودة، (لتعصّب) هكذا. لكن لماذا، أقول، هي هكذا هشة ضعيفة؟ لماذا هي هكذا مفرطة الحساسية فائقة التأثر؟

أرقبها من بعد في أوقات أخرى، كانت إنسانة جميلة، راقية، وذات حضور طاغٍ. في كل مناسبات العائلة كانت هي في الواجهة، صاحبة واجب، تعرف الأصول والترتيب والرستكة. حين تدلف إلى أي مكان تستدير الرؤوس وتطيب النفوس، فطلعتها بهية والملابس فوقها (كالقالب)، فستانها الزبون ومحرمتها ومدوّرتها وصف الأزارير الذهب فوق ياقة سديريتها، ومنديلها الحرير المطرز في طرف كمها: كل التفاصيل في مكانها بالسانتي. كانت لها شخصية قوية فذة، فهي إن صوّبت نظراتها بحدّة في أحد من النساء أو الرجال لكان لها ما أرادت فوراً، وهي إن رفعت صوتها متحدثة أو ساخطة صمت الجميع وأذعن، وهي إن سلطنت في لحظة صفاء وأطلقت تلك المواويل الحجازية والفراعي الجميلة بصوت عذب رخيم، (طاح الطير الطاير) وترنح السامعون حولها طرباً واستزادوا. كيف تكون إذاً هكذا، قوية ضعيفة؟ صلبة هشة؟ قمة في التماسك وسفح في التهاوي؟

كانت تجلس ذات عصر في الروشان تدندن وحدها حين لمحتني أدخل المجلس، رنت إلى بعينها ثم أشارت بيدها أن أقترب. كنت في الخامسة عشرة من عمري حينذاك، لكن الرعب الطفولي بقي في داخلي. امتثلت لندائها دون تفكير وإن كانت هيبتها تزداد كلما اقتربت منها. لم تقل شيئاً، بل استمرت في الغناء:

أغنم زمانك أمانة يا حبيب اغنم

ما دام عادك صغير السن طيشانِ

خايف عليك بعد ستعشر سنة تندم

تنسى شبابك وأحبابك وتنساني

سكتت قليلاً وتأملتني ثم قالت: أنت في السادسة عشرة، أليس كذلك؟ هل تسامحيني إن قلت لك أنني أحسدك؟ آه .. خسارة. أيقنت أنني في حضرة وجع دفين. أردتها أن تكمل ولم أعرف إن كان صمتي سيحفزها أكثر من تساؤلي. لم أقل شيئاً خوفاً من أن يخدش صوتي رهبة تأملاتها، (تصدقين)، قالت: (أنا لا أعرف معنى هذه التعشر من تلك التعشر، أشعر أنني قفزت من العشرة الأولى من عمري إلى عشرة الأربعين، هكذا .. دفعة واحدة، لا تمهيد ولا مقدمات. أعوامي مسروقة مني وأعرف أني لن أستعيدها أبداً).

لمحت دمعة أسى تبرق في عينيها، وخفت أن تباغتها نوبة تشنج أخرى. تسارعت دقات قلبي وكدت أغادر المكان هرباً لولا أن أتاني صوتها مجدداً: (كنت طفلة صغيرة السن طائشة يوم عودتي من عيد بعيد، فرحة بدمية قماشية وقطعة حلوى متشابكة. كان أخي الأكبر يلاحقني ليسلبني الحلوى وأنا أضحك من كل قلبي وأهرع إلى حضن أمي أحتمي بها من هجومه. تضمني لصدرها وتدللني، فقد كنت آخر العنقود: أنا لطفية صغيرة. كنت سميّة أخت كبرى لي ماتت قبل ولادتي، فأعادوا اسمها في شخصي إحياء لذكراها. ولقّبوها هي بلطفية كبيرة تفريقاً بيننا، ولقّبوني بالصغيرة ليتحنّط معي صغري، ويصبح جزءاً من اسمي ومن كياني المقتلع).

ابتعدت بخيالها وهي صامتة وكأنها تسترجع ذلك اليوم الخالي، ثم سمعتها تغني:

تعلق قلبي طفلة عربية .... تنعم في الديباج والحلي والحلل

لها مقلة لو أنها نظرت بها .... آآه

تنهدت وقطعت غناءها قائلة: (أي مرض مقرف يجذب الرجال إلى الطفلات الصغيرات؟ يوم العيد ذلك تجمع الأقرباء للمعايدة ... كان أبي في الصفة يجالس أحدهم حين ناداني: (تعالي يا لطفية ردي السلام على سيدك محمد). رفعت عيني لأمي متسائلة، وفسّرت: (سيدك محمد كان زوج أختك لطفية كبيرة .. اذهبي .. لا تخافي). دخلت المجلس وأنا أقفز غير آبهة بشيء، فقرّبني والدي من سيدي محمد وقدمني للسلام عليه. فوجئت بذلك الرجل العجوز الضرير يمد فجأة يداً ثقيلة ويضعها على رأسي، ثم يبدأ في قياس طولي بالأشبار .. يفتح كفه ويضمها وهو يتمتم:

(ثلاثة .. همم .. خمسة .. ما شاء الله تبارك الله. لقد كبرت يا لطفية). ثم داخلني خوف منه وقد راح يتحسس وجهي وأذنيّ ورقبتي وأكتافي وذراعي. في النهاية أمسك بكفي، ثم قال لأبي مبتسماً: (لقد راقت لي يا شيخ علي .. هل نتوكل؟) وسمعت أبي يرد عليه: (على بركة الله ). لم أفهم شيئاً، لكن صرخة أمي من الداخل نبهتني إلى خطر محدق. تلك الصرخة كانت فاصلاً بين عالم الطمأنينة والسكون وعالم الخوف وانعدام الأمان!!).

حكت لي جدتي لطفية صغيرة كيف كبرت بين يوم وليلة، كيف قذف بها والدها في فوهة بركان يطفئ به فورانه، كيف رمى بها عروساً في نهر هائج يسكن به فيضانه. كانت فدية، أضحية، بل كان قدرها أسوأ، فالقرابين تموت مرة واحدة، بينما عاشت جدتي الموت مرات ومرات. أخرجت جدتي ما اختزنت من صدرها من أحزان، صبت في مسمعي ألم السنين وحكت لي كيف خرجت من طفولتها البريئة إلى فضاءات الانقضاض والهتك والانتفاخ والتشقق والتقرح على يد رجل مسن أعمى، كانت زوجته وخالة أبنائه الذين يكبرونها بسنوات، وكانت تناديهم جميعاً ب( سيدي). قنبلة غاشمة فجرت براءتها وطهرها حين طعنها شيخ طاعن ظنته ضيفاً ستلقي عليه السلام وتعود للهو واللعب، تعود لحضن أمها وتعاود حياتها الطبيعية وتكبر تدريجياً وتذوق لذة العشرة والتعشرات والعشرينات، لكنه كان قد انتقاها طريدة ووضعها في قفصه وأطبق على عمرها.

عاشت لطفية صغيرة كوابيس الليل والنهار، حملت وهي في الثامنة من عمرها، ولم يتحمل رحمها الضئيل ذلك التطفل الهمجي، فلفظ ما بداخله. وتوالت الحملات والإسقاطات ودمها يهدر في كل مرة ويسفك، ولا يبالي بها أحد، فحتى الشكوى كانت عيباً في ذلك الزمن الغابر. أردت أن أعود معها إلى وقت معاناتها وأفتح لها ذراعي وأضمها، أحميها من عذاباتها المتكررة وأبعدها عن بؤسها وشقائها. طفلة ضاعت بين أنانية رجلين، أحدهما اختار والآخر قرر، واحد أراد والثاني لبى له، وصاحبة الشأن لم تُستأذن ولم تُستأمر، لم تُسترض ولم يُسمع لها صوت ولا صمت. كيف كان ولي أمرها سيستشير من لا تعرف معنى الاستشارة ولا بلغت رشداً يمكنها من إدراك ما هي مقبلة عليه؟ كانت طفلة قاصر وكان لشأنها ولي يعبث به كيف يشاء، يضعها في براثن الذئب إن شاء: (كنت أمقت قربه مني، أختنق وأموت، وأتعجب بعد كل مرة كيف أعود إلى الحياة).

مضت الأيام ثقيلة مريرة لا ألفة فيها ولا مودة، ومضت معها جدتي تضحك أحياناً، وتبكي أحياناً، وتهاجمها (التعصيبات) أحياناً أخرى. في وقت لاحق أنجبت بنتين ودفنت أحزانها في تربيتهما، وجدت لنفسها هدفاً يدخل إلى قلبها بعض السعادة، ورأت في ابنتيها فرصة جديدة لتعيش حياة مختلفة لها رونق وبهاء. واعترفت جدتي أنها وجدت في الغناء ملاذاً تنفس في آهات مواويله وفراعيه ما يجيش في صدرها من أحزان، كما وجدت في صديقة لها حناناً تتوق إليه وصحبة تؤنس وحشتها وترطب شظف عواطفها، كانت تتبادل معها الزيارات والهدايا، وترافقها في زيارات أخرى، تشاركها سهراتها وسمراتها، وترتدي ثياباً تطابق ثيابها وتدق لها الطار حين تصدح بالغناء.

نظرت إلي وقالت: (ما زلت صغيرة ولا داعي لإثقالك بهمومي).

قلت: (لا عليك، أما قاربت سن الندم كما تقول أغنيتك؟ خايف عليك بعد ستعشر سنة تندم ... !) ابتسمت وهمست: (عيشي حياتك ولا تتسرعي بالزواج، واحمدي الله أنك في زمن تفتحت فيه عقول الناس فما عادوا يرمون ببناتهم إلى التهلكة).

قلت: (الحمد لله فعلاً .. أنت بطلة يا جدتي. لقد تحملت تلك المأساة على ثقلها وخرجت منها بسلام بارك الله فيك).

قالت بأسى مسموع: (المعارك دائماً تترك جراحاً غائرة. أنا لم أخرج بسلام، أنا فقط صارعت من أجل البقاء. سأظل دائماً مجروحة أبحث عما سُلب مني وما انتُهك دون جدوى. كم أتوق إلى طفولتي تلك .. إلى حضن أمي .. إلى دمية قماشية لا أدري أين خبأتها .. إلى قطعة حلوى لا يشوبها المرارة ..).

لم أتمالك نفسي من الاندفاع نحوها .. أشدها إلى صدري وأغلق من حولها ذراعيّ بقوة .. وأمنحها حماية متأخرة .. متأخرة..

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7712» ثم أرسلها إلى الكود 82244

جدة lamiabaeshen@gmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة